4ثانياً: لكتاب الله ظاهر وباطن: «. . . إنّ لكتاب الله ظاهراً وباطناً» (18) ، وهذا معناه أنّ كلّ ما جاء في القرآن - ومنه الحجّ - له ظاهر يعرفه الناس، وباطن لا يراه إلاّ الشهوديّون والعرفاء، ولا يناله غيرهم.
بعبارة اُخرى: كلّ ما أثنى عليه الوحي الإلهي فله ظاهر يتواصل معه الناس بجسدهم وقوالبهم، وباطن يتّصل به الإنسان بالقلب ويناله به.
وتنزل العبادات - ومن بينها الحجّ - حالها حال سائر موجودات العالم الاُخرى. . . من خزائن الغيب الإلهي: وَإِنْ مِنْ شَيْء إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَر مَعْلُوم (19) ، وهي كغيرها من الموجودات تنزل إلى واقعيّات متّكئةً على مخازن الغيب، وعليه فمن يعرف هذه الاُمور العبادية ويعمل بها يصل إلى اُصولها وجذورها في مخزن الغيب.
وهناك روايات واردة في الصور الباطنيّة للأعمال العباديّة، وهي تنظر إلى هذه النقطة التي أشرنا إليها، حيث يتعرّف الإنسان في البرزخ الصعودي أو النزولي على تلك الواقعيّات، وطبعاً عدد قليل من الناس يعرفون هذه الحقائق قبل تنزّل الأعمال لهذا العالم (في البرزخ النزولي) ، تماماً كما يعرف سائر الناس بعد الموت (في البرزخ الصعودي) حقيقة الصلاة والحجّ والزكاة ويفهمونها، ويرون صورها الملكوتيّة.
وكما يقول الحديث: «إذا مات العبد المؤمن دخل معه في قبره ستةّ صور، فيهنّ صورة أحسنهنّ عن يمينه، واُخرى عن يساره، واُخرى بين يديه، واُخرى خلفه، واُخرى عند رجله، وتقف التي هي أحسنهنّ فوق رأسه؛ فإن أتى عن يمينه منعته التي عن يمينه، ثمّ كذلك إلى أن يؤتى من الجهات الستّ، فتقول أحسنهنّ صورةً: ومن أنتم جزاكم الله عنّي خيراً؟ فتقول التي عن يمين العبد: أنا الصلاة، وتقول التي عن يساره: أنا الزكاة، وتقول التي بين يديه: أنا الصيام. وتقول التي خلفه: أنا الحجّ والعمرة. وتقول التي عند رجليه: أنا برّ من وصلت من إخوانك. ثمّ يقلن: مَنْ أنت؟ فأنت أحسننا وجهاً، وأطيبنا ريحاً، وأبهانا هيئة. فتقول: أنا الولاية لآل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين» (20) .
تدلّ هذه الرواية على أنّ للحجّ صورةً باطنيّة تظهر في صورة ملكوتيّة عندما ينتقل الجميع من عالم المُلك إلى عالم الملكوت، ويسافرون ويهاجرون حيث تتبدّل الدُّنيا إلى آخرة.
ولأماكن الحرم - مكاناً مكاناً- وكذلك لمناسك الحجّ والعمرة، أسرار ورموز، لا تنكشف إلاّ لزائرين خاصّين يشاهدون صاحب البيت في المجالي والتمظهرات المختلفة، وينالون اللِّقاء بربّ البيت وشهود الآيات الآفاقيّة والأنفسيّة له، ويمتثلون الحجّ الإبراهيمي والاعتمار الأصيل الحسيني (عليهما السلام) .
ويوضح الإمام الصادق (ع) بعض أسرار الحجّ، والتي تشكِّل الوجهة الباطنيّة له، فيقول:
«. . . ثمّ اغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك، والبس كسوة الصّدق والصفاء والخضوع والخشوع، وأحرم عن كلّ شيء يمنعك من ذكر الله ويحجبك عن طاعته، ولبِّ بمعنى إجابة صافية خالصة زاكية لله عزَّ وجلَّ في دعوتك، متمسّكاً بالعروة الوثقى. وطف بقلبك مع الملائكة حول العرش كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت. وهرول هرباً من هواك وتبرّياً من جميع حولك وقوّتك. واخرج عن غفلتك وزلاّتك بخروجك من منى، ولا تتمنّ ما لا يحلّ لك ولا تستحقّه. واعترف بالخطايا بعرفات. وجدّد عهدك عند الله بوحدانيّته، وتقرّب إلى الله واتّقه بمزدلفة. واصعد بروحك إلى الملأ الأعلى بصعودك إلى الجبل. واذبح حنجرة الهواء والطمع عند الذبيحة. وارم الشهوات والخساسة والدناءة والأفعال الذميمة عند رمي الجمرات. واحلق العيوب الظاهرة والباطنة بحلق شعرك. وادخل في أمان الله وكنفه وستره وكلاءته من متابعة مرادك بدخولك الحرم. وزُر البيت متحقّقاً لتعظيم صاحبه ومعرفة جلاله وسلطانه. واستلم الحجر رضاءً بقسمته وخضوعاً لعزّته. وودّع ما سواه بطواف الوداع. وأصف روحك وسرّك للقاء الله يوم تلقاه بوقوفك على الصفا. وكُن ذا مروّة من الله نقيّاً أوصافك عند المروة. . .