5واعلم بأنّ الله تعالى لم يفترض الحجّ ولم يخصّه من جميع الطاعات بالإضافة إلى نفسه بقوله عزّ وجلّ: وَللهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَن اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا (21) ، ولا شرع نبيّه (ص) سنّة في خلال المناسك على ترتيب ما شرعه، إلاّ للاستعداد والإشارة إلى الموت والقبر والبعث والقيامة. . .» (22) .
سرّ الحجّ في السير إلى الله
كما كان الحجّ لله ووجوبه منه: وَللهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا (23) ، كذلك لابدّ أن يكون امتثاله والقيام به لله أيضاً؛ فإذا أراد شخص الحجّ بقصد السياحة والتجارة وأمثال ذلك فإنّ حجّه هذا ليس له أيّ سرّ من حيث إنّه ليس سيراً إلى الله تعالى، فإنّ أهمّ أسرار الحجّ هو السير إلى الله سبحانه، تماماً كما طبّقت بعض الروايات الآية الكريمة: فَفِرُّوا إِلَى اللهِ (24) على الحجّ (25) .
إنّ سفر الحجّ فرار من غير الله إلى الله سبحانه، وحيث الله في كلّ مكان (26) ، فليس معنى «السير إلى الله» هو السير المكاني أو الزماني، بل الفرار إلى الله معناه ترك الإنسان ما سوى الله وطلبه لله سبحانه، وعليه فإذا سافر إنسانٌ إلى الحجّ بقصد التجارة أو الشهرة أو ما شابه ذلك، فقد حقّق «الفرار من الله» لا «الفرار إلى الله» .
إنّ مسيرة إقامة الحجّ التي تكمن في الانقطاع عمّا سوى الله والهجرة إليه سبحانه، كي يُنال لقاؤه. . . كلّها «إلى الله» و «في الله» و «مع الله» و «لله» ، من هنا جاء في بعض أدعية الحجّ وأمثاله: «بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله» (27) .
زاد سفر الحجّ
لم يرد تعبير «الزاد» في القرآن الكريم سوى في الآية الشريفة: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى (28) ، حيث يشتمل صدرها - بل وما قبلها وما بعدها من آيات - على بيان بعض أحكام الحجّ؛ وسرّ المطلب وجود سفر في الحجّ: وَأَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِر يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجّ عَمِيق (29) وحيث كانت هناك حاجة في السفر للزاد والمؤونة، لذا ذكّر الله سبحانه بذاك السفر الأصلي والأصيل الذي هو الآخرة، فأمر بالتقوى.
إنّ قوله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى :
أوّلاً: يرشد إلى الطريق، وبدلالته على تعيين الزاد، وهو التقوى، فإنّه يبيّن أنّ المراد هنا هو السلوك إلى الله تعالى، فإنّ الله هو أهل التقوى، كما أنّه أهل الجود والجبروت.
ثانياً: يحذّر الناس بأنّهم جميعاً مسافرون؛ لأنّ التزوّد علامة أنّ الإنسان مسافر.
ثالثاً: يُعلِم بأنّ المسافر من دون زاد لا يمكنه الحركة ولا التقدّم.
رابعاً: يرشد الجميع إلى أنّ أفضل الزاد هو التقوى.
خامساً: يبيّن أنّ الحجّ من أبرز مصاديق التقوى.
سادساً: يذكِّر بأنّ أفضل نوع من أنواع التقوى هو التقوى الإلهيّة، (فَاتَّقُونِ) ، فإنّ زاد السالكين الذين ينشأ ورعهم وتقواهم من الخوف من نار جهنّم أو الشوق إلى الجنّة، ينتهي زادهم في وسط الطريق، ولا يصلون إلى لقاء الله في سفر الآخرة؛ لأنّ هدفهم كان الفرار من جهنّم أو الوصول إلى الجنّة، وبعد ذلك يقفون في حركتهم، لأنّهم لا زاد معهم لغيرها.