151جاء في الخبر عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (ع) قَالَ:
«مَنْ نَظَرَ إِلَى الْكَعْبَةِ بِمَعْرِفَةٍ فَعَرَفَ مِنْ حَقِّنَا وَ حُرْمَتِنَا مِثْلَ الَّذِي عَرَفَ مِنْ حَقِّهَا وَ حُرْمَتِهَا، غَفَرَ اللهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَ كَفَاهُ هَمَّ الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ» .
هذا وإن للحج أسراراً بديعة، وحكماً متنوعة، وبركاتٍ متعددة، ومنافع مشهودة، سواء على مستوى الأفراد أم على مستوى الأمة، قال الله تبارك وتعالى في محكم التنزيل: وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ (7)
الحج ميدان فسيح يتدرب فيه الحاج عملياً على اكتساب الأخلاق الجميلة والآداب الحميدة، على الحلم، والصبر، والمداراة، وكظم الغيظ من جراء ما يلقى من الزحام، والتعب، والنصب سواء في الطريق إلى الحج، أم في الطواف، أم في السعي، أم في رمي الجمار، أم غيرها من المناسك؛ فيتحمل الحاج ما يلقاه من ذلك؛ لعلمه بأن الحج أيام معدودة، ولخوفه من فساد حجه إذا هو أطلق لنفسه نوازع الشر، ولإدراكه بأن الحجاج ضيوف الرحمن؛ فإكرامهم، والصبر على ما يصدر من بعضهم، دليل على إجلال الله عز وجل.
فإذا تحمل الحاج تلك المشاق في أيام الحج صار ذلك دافعاً لأن يتخلق بالأخلاق الجميلة بقية عمره.
والحج يذكّر أصحابه ومريديه بالآخرة؛ فازدحام الناس وهم يموج بعضهم في بعض، وهم في صعيد واحد، وبلباس واحد، وقد حسروا عن رؤوسهم، وتجردوا من ثيابهم، ولبسوا الأردية والأزر، وتجردوا من ملذات الدنيا، ومتعها، تذكر يوم حشرهم على ربه؛ فيبعثهم ذلك إلى الاستعداد للآخرة، ويقودهم إلى استصغار متاع الحياة الدنيا، ويرفعهم عن الاستغراق فيها، ويكبر بِهِمتهم ويتركوا كل ما يدعو الى السوء والبغضاء وحب الأنا. فيقترب كل واحد منهم من محبة إخوانه الآخرين ويستغرق بعضهم في مودة بعضهم الآخر، ويتم الاطلاع على مشاكلهم وحاجياتهم، وهذا مدعاة لحب الوحدة وتقوية الصف المسلم والساحة المؤمنة. .
والحج يعد تجمعاً بشرياً ضخماً، يستقطب الملايين من المسلمين، من مختلف الأقطار والأمصار، فهو ينتج حركة بشرية هائلة، يتبعها تحرك اقتصادي ومالي ضخم، عن طريق النقل، والاستهلاك، وحمل البضائع وتبادل النقود، وشراء الأضاحي والحاجيات ومستلزمات الحج والإقامة والسفر والتنقل، فينتفع العديد من المسلمين بذلك، ويشهد مجتمعهم حركة اقتصادية وتجارية ومالية نشطة يكون هذا سبباً في تعارفهم و تآلفهم وتعاونهم.
الحج مدرسة يتعلم فيها الحاج، يتعلم الكرم، والبذل، والإيثار، والبر، والرحمة، وذلك من خلال ما يراه من المواقف النبيلة الرائعة التي تجسد هذه المعاني؛ فهذا سخي يجود بالإنفاق على المساكين، وذاك كريم بخلقه يعفو عمن أساء إليه، وأخطأ في حقه، وذاك رحيم يعطف على المساكين ويتلطف بهم، وذاك حليم يصبر على ما يلقاه من أذى، وذاك برّ بوالده يحمله على عاتقه، وذاك يحوط أمه العجوز بلطفه ورعايته.
بل ويكتسب الإنسان الحاج الأخلاق الجميلة عند رؤيته من لا يدركون معنى الحج، وهم الذين يغضبون لأدنى سبب، وتطيش أحلامهم عند أتفه الأمور، كيف يكون اكتسابه؟ بتجنبه ما هم عليه من خلق لا يليق بآداب وأخلاق هذا الموسم. فإذا رأى العاقل البصير سوء فعال هؤلاء انبعث إلى ترك الغضب، وتجافى عن مرذول الأخلاق، ونأى عما هم عليه.
إذن، الحج إعداد وتربية لسلوك الفرد ونوازعه بل هو إعداد وتربية لسلوك الجماعة ونوازعها، وبالتالي إعداد وتربية لسلوك الأمة ونوازعها، ففيه تتعود كل هذه المفاصل