15إنّ الذي يظهر في نشأة الشهادة هو حصيلة عهد مرتبة الغيب، وبناءً عليه، رغم أنّ الجميع عقدوا العهد مع نداء الله الجليل سبحانه، إلاّ أنّ بعضهم كان بواسطة الخليل وبعضهم بلا واسطة، ولهذا لم تكن التلبية واحدة عند الجميع، بل يمكن أن يقول شخص: «لبّيك ذا المعارج لبّيك» ، إلاّ أنّه في واقع الأمر يلبّي وَأَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ ، ويُجيب دعوة الخليل، لا دعوة الجليل، ذلك أنّ التلبية في مقام الظاهر تابعة لاستجابة الدعوة الإلهيّة في عالم الميثاق الإلهي.
وتجليةً لهذه النقطة، نلاحظ أنّ الناس جميعاً يلبّون مرّتين، وهاتان المرّتان تقعان في طول بعضهما، إنّ هذه الإجابة والاستجابة ليست أمراً تاريخيّاً حتّى يكون قد مضى وانتهى، وإنّما هي امتداد واستمرار.
لقد تحدّث الله سبحانه عن الاُولى منهما بقوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى (71) .
أمّا الثانية؛ فكانت أمر الله لإبراهيم الخليل بإعلان الدعوة العامّة للحجّ: وَأَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ ، وقد وصلت هذه الدعوة للناس جميعاً حتّى للّذين هم في أصلاب آبائهم، واستجابوا لهذه الدعوة.
يقول الإمام الصادق (ع) في هذا المضمار: «لمّا أُمِرَ إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) ببناء البيت وتمّ بناؤه، قعد إبراهيم على ركن، ثمّ نادى: هلم الحجّ، هلم الحجّ. . . فلبّى الناس في أصلاب الرجال: لبّيك داعي الله، لبّيك داعي الله عزّ وجلّ. . . فمَن لبّى عشراً يحجّ عشراً. . . ومَنْ لبّى أكثر من ذلك، فبعدد ذلك، ومَنْ لبّى واحداً حجّ واحداً، ومَن لم يلبِّ لم يحجّ» (72) .
إنّ مشهد التلبية لدعوة الخليل تشابه مشهدها لدعوة الله سبحانه في عالم الذرّ والذرّية، فكما أنّ القضيّة مستمرّة في المشهد الأوّل، كذلك هي في المشهد الثاني؛ لأنّ حديثنا هنا عن استجابة الفطرة والروح، لا عن استجابة الذرّات في الأصلاب والأرحام بوصف ذلك حدثاً تاريخيّاً.
إنّ تفاوت المراتب المذكورة للملبّين، حدثٌ يتكرّر في الكثير من القضايا الدينيّة الاُخرى، مثل تلاوة القرآن الكريم وتلقّي السلام الإلهي.
محرّمات الإحرام
الحجّ مجموعة منتظمة من سلسلة عباديّة خاصّة، تستحقّ كلّ حلقة فيها تأمّلاً ونظرة؛ فكما تحرم اُمور عديدة بأداء تكبيرة الإحرام في الصلاة وتصبح غير منسجمة مع العبادة، لتظلّ محرّمة حتّى يؤدّي المصلّي التسليم نهاية الصلاة، كذلك الحال في الحجّ والعمرة، فبالإحرام والتلبية تحرم الكثير من الاُمور (73) التي يكون البُعد التعبّدي في اجتنابها قويّاً، والاختبار الإلهي فيها كذلك، وبهذا تكون دورة الإحرام رحلةً تعبّديّة محضة وامتحاناً صرفاً (74) .
وبالقيام بمناسك الحجّ والوصول إلى مراسم التحليل ينفكّ عقد الإحرام، ويخرج المحرم من دائرة المنع في هذه المحرّمات.
إنّ الإحرام ورعاية حدوده يحرّر الروح من أيّ قيد لا سيما من قيود الشهوة والغضب، ويطهّر العقل من كلّ فكر باطل، وينجّي القلب من الخيال الغافل؛ لأنّ كلّ ما يوجب ظلمة الروح وتلوّن النفس قد حرّم حال الإحرام، حتّى تكون الروح الطاهرة والنفس الخالصة أهلاً للطواف في بيت الله، ذلك البيت المنزّه عن كلّ لوث وقذارة.
بيت الله هو محور الحريّة ومدارها، من هنا لم يكن يحقّ للمحرم الآتي لزيارته أن يأسر فيه الصيد، أو يساعد على أسره، أو ينفّره أو يدلّ الصيّاد عليه؛ لأنّ هذه الأعمال كلّها تتنافى مع روح الرغبة في الحريّة، وما لم يُحرِّر الإنسان نفسه فلن يكون لديه صلاحيّة الطواف في محلّة الحريّة.