14أمّا التلبية في الإسلام، فهي تضرّع واستغاثة بالمحضر الواحد المحض وصرخة صاعقة ضدّ مختلف أنواع الشرك الجلي أو الخفيّ، وهذا أمرٌ واضح لكلّ من شاهد صرخات التلبية في الصحراء القاحلة، وداوم على ذكرها عند كلّ منخفض ومرتفع من الأرض.
إنّ نصوص أهل البيت (عليهم السلام) شاهدٌ على ما قلناه، ومن بينها أنّ أيّ شخص يعمل بسنّة الجاهليّة، أو يتلوّث بالمال الحرام، فإنّه يقال له عندما يلبّي: «لا لبّيك عبدي، ولا سعديك» (63) ، من هنا يقول الإمام الكاظم (ع) : «إنّا أهل بيت، حج صرورتنا، ومهور نسائنا، وأكفاننا، من طهور أموالنا» (64) .
إنّ الحجّ صرخة ضدّ الجاهليّة، وهذا ما يجعلنا نفهم السبب في أنّ الروايات الواردة في تلبية إبراهيم الخليل وموسى الكليم وخاتم النبيّين (عليهم السلام) أكثر بكثير من الروايات الواردة حول سائر الأنبياء والرسل (65) .
سرّ التلبية
الإحرام والتلبية استجابة لنداء الوحي والدعوة الإلهيّة، من هنا يقع الحجّاج الحقيقيّون عند التلبية في خوف عقلي مهول، يغيّر لونهم فيصير مصفرّاً، ويأخذ بأصواتهم، ويدهشون ويقولون: نحن نخشى أن يُقال لنا بأنّكم لم تلبّوا نداء الحجّ على نحو الحقيقية، «لا لبّيك ولا سعديك» (66) .
إنّ الحاج يعقد في الحقيقة عهداً مع الله عندما يلبّي، مضمونه أنّني لن أنطق بعد الآن إلاّ بطاعتك، وسوف أقفل فمي عن النطق بالمعاصي كلّها (67) .
إنّ حجم اللِّسان قليل، لكنّ جرمه كبير وكثير، والتلبية تطهير للِّسان عن كلّ معصية ترتبط به، من هنا كان اللِّسان الزائر لبيت الله هو اللسان الطاهر.
من هذا كلّه يظهر أنّ سرّ التلبية هو إطلاق اللِّسان بالحقّ والطاعة، ومنعه وتطهيره من مقولات الباطل والمعصية، وهذا ليس في زمان الحجّ والعمرة فحسب، بل و إلى الأبد.
مراتب التلبية والملبّين ودرجاتهما
تتفاوت مراتب الملبّين طبقاً لتفاوت مراتب التلبية، فبعضهم يلبّون إعلان الأنبياء، وبعضهم يلبّون دعوة الله سبحانه، بعضهم يقول: إنّنا نستجيب لمن دعانا إلى الله، وقد جئنا نقول: «لبّيك داعي الله، لبّيك داعي الله» (68) ، وهؤلاء هم المتوسّطون من زوّار بيت الله حيث أجابوا دعوة إبراهيم الخليل، الذي دعا إلى الحجّ بأمر من الله سبحانه: وَأَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِر يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجّ عَمِيق (69) .
وأعلى من هؤلاء، اُولئك الذين يسمعون دعوة الله: وَللهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَن اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً (70) ، ويستجيبون لهذه الدعوة.
نعم، إنّ جواب خليل الله هو جوابٌ لله سبحانه، ولا جواب لله من دون جواب دعوة الخليل، إلاّ أنّ التفاوت يقع في شهود الزائر العارف لبيت الله، فكلّ إنسان يقع في درجة هويّته ومرتبة إيمانه، ويعرف الله طبقاً لها، ويمضي معه الميثاق كذلك، كما يمتثل أوامره بالطريقة عينها.
بعضهم يعرفون الله بالواسطة، وبعضهم مثل الأنبياء (عليهم السلام) يعرفونه بلا واسطة، ويعقدون معه العهد، ويعملون بأحكامه.