99أما رحلات وسفريات هؤلاء العلماء وهي سفريات قام بعضهم بها فقط فكانت مهمة للتعرف على شبكات العلاقات العلمية والسياسية لهؤلاء العلماء الذين كانوا يتنقلون بين أوطانهم التي ولدوا فيها ومكة وعبرها إلى أجزاء مختلفة من العالم، كما هو حال العديد من العلماء الحضارمة مثلاً.
ونظراً لأن المشروع في مراحله الأولية، فإنني سأقدم وصفاً موجزاً لما يمكن أن يحققه المشروع بإذن الله للدراسات المكية التاريخية . أولاً قمنا بإعداد أداة جمع المعلومات وهي كما ذكرنا في (14) مدخلاً بحسب ما أوردنا من تفاصيل . وسيقوم فريق البحث بإدخال هذه المعلومات في الحاسوب ثم مراجعة البيانات التي تم إدخالها للتأكد من صحتها ومطابقتها لما ورد في المتن الأساس، وهذا يُعرف باختيار جودة البيانات من حيث الصدق والثبات.
بعد ذلك، سنتمكن من الحصول على بيانات تفصيلية عن المترجم لهم بشكل عام من حيث سنوات الميلاد والوفاة وتوزيعهم على المذاهب الفقهية وقائمة بألقابهم وكنياتهم وغير ذلك من معلومات . لكن هذه المعلومات ما هي سوى فهرسة للبيانات الواردة وتبويب وترتيب لها، لكن وجودها الآن بهذه الصورة المنظمة والرقمية سيساعدنا بإذن الله على الإجابة على العديد من الأسئلة، من خلال ما يعرف بالمقاربات والمقابلات بين البيانات Crosstabulation وهي أمور سهلة ومتعارف عليها عند المختصين، كذلك سنتمكن من التعرف على مشجرات الأسماء والكتب التي قام هؤلاء العلماء بتصنيفها أو دراستها، كما سنوضح.
فمثلاً، سنتمكن من خلال معرفة تواريخ الوفيات وربطها بمتغيرات أخرى معرفة معلومات في غاية الطرافة والأهمية، فمثلاً بالربط بين تواريخ الوفيات والمذهب الفقهي، يمكننا معرفة أي علماء المذاهب كانوا الأكثر انتشاراً ووجوداً في عقود مختلفة في الحرم الشريف عموماً . بمعنى مثلاً بإمكاننا عن طريق هذه التواريخ في كل قرن: العاشر، الحاديعشر، الثانيعشر، الثالثعشر، الرابععشر، معرفة الحرم كم كان عدد علماء السادة الأحناف، الشافعية، المالكية، الحنبلية، في هؤلاء العلماء.
وانطلاقاً من ذلك يمكنناً تقدير تبعات ذلك الفكرية والسياسية والعلمية وأثر ذلك على التفاعل والتنافس بين هؤلاء العلماء . بل يمكننا أن نقدر الأمر حتى بحسب العقود ومن ثم معرفة هذه الأعداد في تفاوتها بين فترة وأخرى ومن ثم إمكانية تفسير ذلك بحسب تاريخ مكة وما وقع فيها من أحداث أو النظام السياسي السائد، وكذلك نوعية التدخلات الخارجية والسياسية الدولية، خاصة وأننا نتناول حقبة كان الاستعمار وتدخله فيها معروفاً في أحوال العالم الإسلامي!
ويمكننا فعل الشيء نفسه بخصوص العلاقة بين مذهب المترجم له ونوعية المصنفات التي ألفها وكذلك التي تعلمها أو قام بتدريسها، ومن خلال المقارنات يمكننا التعرف على اهتمام علماء المذاهب المختلفة العلمية، بحيث يمكننا الإجابة على أسئلة مثل: هل كان الأحناف أكثر العلماء اهتماماً بالدراسات الفقهية؟ وما هي أهم المصادر العلمية التي يقبلون عليها عبر القرون؟ وما هي المصنفات التي صنفوها؟ بل يمكننا إجمالاً الربط بين نوعية الكتب المصنفة أو المدروسة أو المدرّسة بحسب تواريخ الوفيات، لتقدير فترات الانتعاش الفكري أو انحساره في حياة الحرم الشريف العلمية ومحاولة تفسير ذلك بحسب الظروف السياسية والثقافية والاقتصادية السائدة آنذاك على المستويين: المحلي والدولي.
ويمكننا الربط بين اللقب والكنية والمذهب لمعرفة من أي الخلفيات الاجتماعية والإثنية هؤلاء العلماء؟ هل الأحناف في غالبيتهم من شبه القارة الهندية ووسط آسيا والأناضول؟ هل السادة الشافعية من اليمن وإندونيسيا ومصر؟ وهكذا . والعمل على معرفة دلالات ذلك على المستوى الاجتماعي والثقافي . بل أحياناً قد تساعدنا البيانات نفسها كما وجدت إلى أنه داخل المذهب الواحد هناك تفاصيل تستحق الدراسة والتفصيل . فمثلاً بين الشافعية نجد نوعاً من تقسيم العمل . فالسادة العلويون من الشافعية الحضارمة يميلون إلى الاهتمام بتدريس السيرة والمواعظ الدينية والتصوف، بينما يميل الحضارمة الشافعية من غير السادة العلويين إلى الفقه والقضاء، ينافسهم في ذلك الشافعية المصريون، أما الشافعية الأندونيسيون فإنهم يهتمون في الغالب بدراسة وتدريس اللغة والأدب العربي، وهكذا نجد إذن تفاصيل يمكن أن تفسر ديناميات الاهتمامات التي يقوم العلماء بتدريسها والاهتمام بها.
أما الربط بين المترجم لهم وأساتذتهم فإن هذا الربط سيساعد جداً على التعرف على ما يمكن أن يسمى سلاسل العلماء ومدارسهم، وهي ستمكن من الإجابة عن من علّم منه؟ وبربطها بالمذهب يمكننا الإجابة عما إذا كان التعليم مقتصراً في مجال معرفي أو كافة المجالات المعرفية داخل مذهب واحد أم أكثر؟!
بل وبالإمكان التعرف على مدى استمرارية حلقة أو سلسلة تعليمية عبر الزمان، والإجابة على الكيفية التي تواترت فيها هذه السلسلة من العلماء وما هي العوامل التاريخية: الاجتماعية أو السياسية التي حالت أو ساعدت على الاستمرار . وفي هذا الخصوص تصبح العوامل الداخلية والخارجية مهمة في فهم ما يجري على الساحة العلمية الفكرية والتفاعلات المستمرة بين هذه الآفاق.
أما مهام العلماء وهي وإن كانت محدوة في معظم الأحيان بمهام تدريسية أو قضائية أو لعب بعض الأدوار في الحياة السياسية والثقافية المحلية، لكن في بعض الأحيان قد تأخذ شكل سفارات للتدخل في سياسات بعض الدول العربية أو الإسلامية . فإن هذه المهام ستوضح الأدوار التي لعبها العلماء في حياة مجتمعهم وتأثيرهم فيه وأهمية هذا التأثير . فكما هو معروف للعديد من هؤلاء العلماء طلاب ومريدون من أصحاب المهن والتجار وهؤلاء يشكلون بشكل ما جمهور المثقفين في تلك الفترات التاريخية، ومن المفيد معرفة المعلومات لفهم ومعرفة ما يجري على الساحة الفكرية والاجتماعية المكية.
أما سفريات العلماء وشبكات العلاقات فيما بينهم فإنها إن ربطت بالمذهب والكنية فإنها ستوضح مجالات التأثير السياسي والثقافي لهؤلاء العلماء في حياة الأمة آنذاك، وكذلك ربما قدمت لنا معلومات عن أدوارهم في معارك الاستقلال والتحرير من ربقة الاستعمار . كذلك توضح من هذه الارتباطات مدى التداخل بين مدرسة الحرم الشريف مع غيرها من مدارس فكرية في العديد من الأقطار الإسلامية وأهمية ذلك في معرفة ودراسة الحركة العلمية والفكرية العامة.