٩٨وتقدم دراسات مونتجمري وات في كتابيه: «محمد في مكة» و «محمد في المدينة» واستخدامه لبعض هذه المتون والتراجم لدراسة الولاءات القبلية والصلات الشخصية في تفسير بعض جوانب ما جرى في السيرة النبوية من ناحية وما تم من تحولات في المجتمع العربي في فترة الرسالة . لقد أمدت البيانات وات بمعلومات مهمة لاختيار العديد من الفروض والآراء.
وبغض النظر عن النتائج التي توصل إليها هؤلاء العلماء، تبقى مسألة الفائدة من استخدام هذه البيانات ملحة للتعرف على جوانب عديدة من حياة المكيين وتاريخ مكة شرفها الله . فهذه البيانات لا يمكن التعامل معها بوصفها بيانات فردية غير قابلة للتراكم، أو أن هذه المعلومات عند تراكمها لا يمكن أن تقدم لنا صورة أكثر غنى وعمقاً عما تقدمه من تراجم للأفراد كلاً لوحده!
بالإضافة إلى ذلك، فإن أدوات تصنيف البيانات وترميزها ومن ثم تحويلها إلى بيانات كمية أصبح من الأمور الميسورة، بل وهي تستخدم بشكل واسع في الدراسات التاريخية . وكما أوضحت في دراسة سابقة عن السجلات العدلية بوصفها منهلاً غنياً وهاماً لكتابة التاريخ الاجتماعي والثقافي، يمكننا أن نعيد التأكيد نفسه . بل إننا نشهد في الفترة المتأخرة العديد من الدراسات الرائدة لبعض جوانب حياة المدن: دراسة الأعيان أو العلماء أو الحياة الأسرية أو جوانب من الحياة الاقتصادية اعتماداً على السجلات العدلية أو كتب التراجم . ومما يؤسف له أن من يقومون بهذه الدراسات هم في غالبيتهم من المستشرقين أو العلماء المحدثين، فلقد وقفوا على العديد من الدراسات التاريخية التي قام بها زملاؤهم في دراساتهم التاريخية عن أوروبا وخلافها . ولعل مدرسة الحوليات، وبالذات كما هو الحال في كتابات مؤسسها فردناند جرويل وكتاباته عن البحر الأبيض المتوسط، أو كتابات جوانين عن جنيز العاهرة ومن ثم كتاباته عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية ليهود مصر ومن حولهم، من الأمثلة المشهورة والرائدة عن إمكانيات إعادة الفائدة من البيانات الأولية وأحياناً المعلومات المتناثرة . إن عملية إعادة التبويب والتصنيف ومن ثم ربط هذه البيانات ببعضها يفتح آفاقاً واسعة وكبيرة لمزيد من التحليل ومن ثم الإجابة على أسئلة كبرى كان يعتقد لفترة متأخرة جداً أنه لا توجد معلومات أكيدة للإجابة عنها، ومن ثم مال بعض للتخمين أو إصدار أحكام انطباعية.
ويوضح لنا هارلود موتسكي في دراسة حديثة، كيف أن الدراسة الكمية التفصيلية، يمكن أن تحسم جدلاً وآراء انطباعية استمرت قروناً، عندما عالج مسألة مساهمة بعض الموالي في تأسيس علم الفقه، وكذلك دحض الآراء القائلة بتأثير الفقه الروماني عبر النصارى واليهود على الفقه الإسلامي، انطلاقاً من دور مزعوم لبعض الموالي . وكانت المعالجة متميزة بالدقة والأناقة والبساطة معاً، لكنها فوق كل ذلك حاسمة.
«نشر النور والزهر في تراجم أفاضل مكة» مصدر لدراسة دور العلماء
نسعى في هذه المداخلة لتقديم كتاب الشيخ عبدالله مرداد أبو الخير، قاضي مكة والمتوفي عام ١٣۴٣ه- ، «نشر النور والزهر في تراجم أفاضل مكة»، وكيف أنه باستخدام أساليب التاريخ الكمية يمكن تحويل هذا المصدر التاريخي إلى منجم معلومات هام عن أعمال علماء الحرم المكي تخصيصاً من القرن العاشر إلى القرن الرابععشر.
والنص الذي سنعالجه هنا هو المختصر الذي قام بتبويبه وتحقيقه كلٌ من محمد سعيد العامودي وأحمد علي، ولقد تم التحقيق عن مخطوطة لكتاب بمكتبة الشيخ عبدالوهاب الدهلوي . ويحتوي الكتاب على تراجم (۶٠۵) من علماء مكة المكرمة ومن بين هؤلاء (٣٠) سيدة! وينتمي هؤلاء العلماء الأفاضل إلى المذاهب الفقهية الأربعة وتعود أصولهم الإثنية إلى كافة الأعراق الإسلامية، فهم من العرب والأفارقة ومن كافة أصقاع آسيا شرقاً وجنوباً ووسطاً بل وأقاصي جنوبها وكذلك الحال في أفريقيا!
والكتاب قدم تراجم مختصرة عن هؤلاء العلماء، وتتفاوت التراجم المقدمة من حيث المادة المقدمة من حيث التفاصيل التي قد تقدم لهذا العالم عن غيره، لكن إجمالاً هناك انتظام في تقديم معلومات أساسية عن الجميع . وحتى نفيد من هذه المعلومات أو بالأصح البيانات الأولية، سعينا إلى تحديد (١۴) مدخلاً للمعلومات قمنا بإعداد البرنامج الحاسوبي لترميزها وإدخالها فيه.
وهذه المداخل أو المتغيرات بلغة العلوم الرياضية تشمل: اسم العالم وتاريخ ميلاده ومكان الميلاد، تاريخ الوفاة ومكانها، اللقب، الكنية، المذهب، قائمة المصنفات التي ألفها، العلوم التي تعلمها، العلوم التي قام بتدريسها، أشهر أساتذته كما ورد في المتن، أشهر تلاميذه كما ورد في المتن، أعماله العامة، أهم الصفات التي اشتهر بها وأخيراً سفريّاته.
بطبيعة الحال قد تغيب في المتن بعض هذه المتغيرات أو قد لا تنطبق على المترجم له . لكن بحسب اطلاعنا على تراجم الكتاب كان هناك حرص من المؤلف على ذكر كافة هذه البيانات . ولقد عملنا على إعداد البرنامج الحاسوبي على إدخال كافة التفاصيل الممكنة، لكن بشكل معياري، فمثلاً قد نكتفي في ذكر الاسم بالاسم الرباعي فقط، وفي حالة عدم توافر هذه المعلومة أو أن المؤلف قدم تفاصيل أطول فإننا سنسعى إلى إكمال النقص من مصادر أخرى، وفي حالة تقديم معلومات أطول نكتفي بأربعة أسماء فقط! وفي حالة عدم توافر معلومة ما، مثلاً عدم تقديم المذهب أو اللقب أو الكنية صراحة، فإننا سنسعى إلى توفيرها من مصادر أخرى، إن أمكن، وفي حالة عدم توافرها سنترك ذلك بدون بيانات.
أما بخصوص المصنفات، فإن المؤلف غالباً ما يقدم معظم مصنفات المترجم له، وهي في مجالات علمية عديدة، لذا فإن البرنامج مصمم على ذكر كل عنوان لوحده ثم الإشارة إلى العلم الذي ينتمي إليه: فقه، توحيد، تفسير، أدب، نحو، سيرة (تاريخ)، تصوف، ونمط، حتى يأخذ أسماءهم الرباعية منعاً لأي التباس، ومن ثم قد نستعين بالكتاب نفسه في إكمال ما قد ينقص في أسماء الأساتذة أو الطلاب.
ولقد كانت لبعض العلماء مشاركات مهمة في الحياة الاجتماعية أو السياسية ولقد أخذنا بهذه المعلومات وقمنا بتبويبها إلى نشاطات مختلفة تعكس ما كان يجري في الساحة الفكرية والسياسية العامة . وكذلك يذكر المؤلف بعض الصفات الشخصية للمترجم لهم، عرفوا بها على نطاق واسع في الأوساط المكية أو العالم الإسلامي أبرزتها لتوضيح الأدوار الثقافية والسياسية لعلماء الحرم الشريف على المستويين الشخصي والعام.