81الكثير من الأبحاث الفقهية عند المذاهب الإسلامية سنجد حجماً لايستهان به من الدراسات المكرورة، فيما دراسات هامة ما تزال غائبة أو حجم المساهمة فيها أقلّ.
لو أخذنا مسألة ذبائح منى وهي مسألة هامة جداً اليوم، وصرفنا النظر عن الفتاوى، فكم دراسة جادة قدّمت في هذا المجال؟ فربما تجد ما كتب في حج الصبي أضعاف ما كتب في هذا الموضوع!
من هنا الحاجة إلى تشكيل حلقات دائمة تعرض عليها المستجدات في فقه الحج مستعينة بالخبراء، وتكون وظيفتها وفي أقرب فرصة ممكنة إصدار مجموعة دراسات في هذا الأمر المستجدّ، وخلق جوّ فكري وعلمي يضاعف من الاهتمام بهذه الموضوعات؛ علّنا بهذه الطريقة نستطيع أن نعطي للفقه بحقّ وجدارة صفة المواكبة للعصر في بعض أشكالها.
الحج بين النظرية التجريدية و المعايشة الميدانية
كثيراً ما يجلس الباحث حول الحج سواء على صعيد فقه الحج أمغيره - يجلس في بيته و يبدأ بدراسة تطال هذا الموضوع أو ذاك فيما يخصّ مكة أو المدينة أو الحج أو العمرة أو الزيارة أو .. . و يبدأ يغوص في النصوص أو الوثائق التي بين يديه، دون أن يعايش المناخ الميداني لهذه النصوص، و هذا ما قد يورّطه في أحكام تجريدية و مواقف غير واقعية ناتجة عن غيابه عن مسرح الأحداث، و لو أنّه اقترب قليلاً من أرض الواقع لربما تبلورت لديه تصوّرات مختلفة أو تراءت له احتمالات في تفسير النصوص ما كان ليلتفت إليها لولا ذلك.
وفي هذا السياق، يتناقل أن بعض الفقهاء الكبار غيّر رأيه في بعض الموضوعات الفقهية والنتائج الاجتهادية التي كان توصّل إليها بعدما سافر إلى الحج بنفسه؛ لأنه رأى على أرض الواقع بعض المعطيات التي تركت أثرها في تعديل فهمه للنص أو لظرف صدوره.
والسبب في هذه الظاهرة في كثير من الأحيان أن الباحث أو الفقيه يحاول تصوّر النصوص كما لها من تطبيق في عصره بحسب طبيعة المحيط الذي يعيشه؛ فيعمّم هذه الصورة إلى سائر الأماكن و الأزمنة بظنّ التشابه أو عدم وجود عنصر إضافي قد يغيّر الصورة، أما عندما يعايش النص في المناخ نفسه الذي جاءت فيه النصوص أو يحاول الاقتراب منه قدر الإمكان فإن رؤيته للحدث أو الصورة ستكون أقرب للواقع.
ولكي أقترب من طرح الموضوع، آخذ الفكرة التي كان يتحدّث عنها سيد قطب (1967م) سيما عند تفسيره لآية التفقه في الدين: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة: 122)
إن سيد قطب يرى أن الجهاد ساحة تفقّه حقيقي؛ إذ في الجهاد يرى الإنسان العناية الإلهية، أي بهذا السبيل يفهم الدين و يرى التجليات الإلهية فيه، لهذا لا يقدر على تفسير القرآن عند سيد قطب و العلامة فضل الله إلا الحركيون 1، أي أولئك الذين عايشوا الواقع و خاضوا التجارب واقتربوا من طبيعة الحياة بألوانها وتمظهراتها ليفهموا المناخ الذي جاء هذا النص أو ذاك ليحلّ مشكلةً فيه أو يرفع التباساً ما.
إنّ هذه الفكرة صحيحة إلى قدر كبير؛ فالإنسان الذي لايفهم معنى السياسة و لايعرف طبيعة الملك والإدارة لايقدر على فهم النصوص السياسية في الكتاب و السنّة كما يفهمها الفقيه و المفسّر الذي يعايش واقع الحياة السياسية و إدارة البلاد أو يقترب من ذلك إلى حدّ بعيد، أما الفقيه الذي يريد أن يضع حلولاً للاقتصاد و يدير بالفقه الحياة الاقتصادية للناس، ويظنّ أنّه بجلوسه في البيت وتشقيقه الشقوق الافتراضية للمسائل والإجابة عن كل افتراض بشكل تجريدي.. . يستطيع أن يقدّم أجوبة الفقه الإسلامي لأعقد القضايا، فهو غير مصيب في تصوّراته، و التجربة كفيلة بتصويب أخطائه.
إذن، فالذي يبدو لنا أن فقه الحج و فقيه الحج يجب أن يقتربا من الواقع و يدرسا الحج والواقع الجغرافي والمناخي والتاريخي والعرفي و.. . للمنطقة هناك؛ لأن ذلك يساعد على اقتراب الفقه من أرض الواقع، و لتتسم أجوبته بالواقعية لاتتصادم مع الواقع و حقائقه.
حج فقهي أم حج روحي؟!
قد يوحي هذا العنوان بأن الفقه يناقض الروح و الروحانية، أو يختلف عنهما، فهناك حج فقهي و هناك حج روحي، ولكن الذي نريده هنا أن نثبت أن الحج الفقهي يجب أن يكون روحياً تربوياً تطهيرياً، وأن الحج الروحي والتطهيري الذي يعيد الإنسان إلى وطنه كيوم ولدته أمه.. . هذا الحج لايتجاوز الضوابط الفقهية و الشرعية ولا يستهين بها، ولايتخطاها.
إننا نجد على أرض الواقع ظاهرتين نعتقد أنه يجب تصحيحهما:
الظاهرة الأولى: أشخاص يذهبون للحج و العمرة و يحاولون الاقتراب من المدرسة الروحية لهذه الفريضة العظيمة، فيملؤون أوقاتهم بالدعاء والصلاة و التوبة والتطهّر، صادقين مخلصين، يهدفون بفعلهم هذا أن يرتقوا في مدارج الروحانية أو أن يشطبوا على تاريخ حياتهم السابق المليء بالذنوب والمعاصي، و كثير من عامة الناس يعيشون قدراً من هذا الجو الروحي في رحلة الحج، ويحاولون أن يعيشوا معاني الحج الروحانية، لكن المشكلة أنهم لا يراعون لسبب أو لآخر الأحكام الشرعية للحج، فبعضهم يعيش حالة جهل حقيقية بفقه الحج؛ ولهذا ربما يقع هؤلاء في أحيان كثيرة في أمور توجب بطلان الحج نفسه، أو يترتب عليها كفارات شرعية يجب أداؤها، من هنا كان من الضروري ترشيد عمل الناس من خلال نشر ثقافة التفقه في أحكام الحج، كي يضمن هؤلاء أن يكون الحج صحيحاً مجزءاً و في الوقت عينه مقبولاً عند الله تعالى.