82الظاهرة الثانية: وفي مقابل الحالة الأولى المتقدمة نجد الكثير من الناس سيما من المتشرّعة والمؤمنين الملتزمين بخط الإسلام يغرقون في متابعة الجانب الفقهي لقضايا الحج حتى تراه يغيب عن روح الحج و عن رسالته المعنوية الكبرى؛ ففي الطواف تجده يعيش عقدة أخذ الكعبة على يساره، و يركز كل همّه و طاقاته على أن لاينحرف كتفه الأيسر عن الكعبة الشريفة، و لا يخرج من هذا الهم و الغم إلا في الشوط السابع؛ حيث يكون قد أتم أعمال الطواف، ليبتلي بهمّ آخر حيث يصارع في عدم الالتفات المخل عن الصفا أو المروة أثناءالسعي، و هكذا في سائر المناسك .
إن هذا الاستغراق في البعد الفقهي للحج على حساب البُعد الروحي، يشبه ما يتحدّث عنه علماء الأخلاق والعرفان عن الاستغراق في مسائل تجويد القرآن والاهتمام بمخارج الحروف في الصلاة على حساب حضور القلب، و كأن عمود الدين يكمن في التلفظ الصحيح فقط بالكلمات و في جعل تركيز الإنسان كلّه في كيفية إخراج الألفاظ من مخارجها وما شاكل ذلك، وقد أشار الإمام الخميني (1410ه) إلى هذا الأمر في إفاداته الأخلاقية والعرفانية 1.
وإذا أردنا أن نتعمّق أكثر في هذه النقطة، نحاول أن ندخل إلى الهيكلية التي جاءت في الفقه الإسلامي لأداء فريضة الحج؛ ففي الفقه الإسلامي بمذاهبه اليوم، وعلى غالب الآراء، يمكن للإنسان أن يذهب إلى الحج دون أن يتزوّد روحياً و معنوياً منه؛ فلا يجب حضور القلب في أيّ فعلٍ من أفعال الحج، ويمكن للحاج أن ينام طيلة الوقت في عرفة والمزدلفة و منى؛ بل بإمكانه أن يقضي وقته بالمسامرات والضحك واللهو و اللعب والتسوّق دون أن يبطل حجه أو حتى أن ينخدش.. . إن خلوّ العديد من الكتب الفقهية من البُعد الروحي للحج و من ثم عدم تحرّك الرسائل العملية لتنشيط هذا البعد الهام، ترك و يترك الكثير من الأثر على أن يصبح المتشرّعة والمتديّنون مستغرقين في قضايا من نوع وضع الكعبة على اليسار دائماً و أمثال ذلك.
بينما لو نظرنا إلى القرآن الكريم لوجدنا التركيز على ذكر الله تعالى في الحج كذكرنا آباءنا أو أشدّ ذكراً، و قد استعرضنا هذا الموضوع في دراسة فقهية مستقلة متواضعة لتأكيد أن الذكر الكثير لله تعالى في الحج فريضة و واجب، وعلى الإنسان أن يعيش الذكر الإلهي في هذا السفر العظيم إلى الله تعالى.. . دون أن يكلّف الناس ما لايطيقون أو أن نطلب منهم أن يصبحوا عرفاء وفلاسفة في عيشهم للحج و دركهم لرسالته و معانيه السامية 2.
من هنا، تكمن الضرورة في إعادة ترتيب البحث الفقهي والرسالة العملية الفقهية بما يخدم مقاصد الحج و رسالته المعنوية الكبرى، و أن لا نضع هذه المسؤولية فقط علىعاتق علماء الأخلاق الذين لم يقصّروا في محاولاتهم العديدة لاستخراج المدلولات المعنوية للحج . بل هذه وظيفة الجميع لأنها تمثل المقصد الأساس لفريضة الحج إلى جانب مقاصده الأخرى الهامة على الصعيد السياسي و الاجتماعي و...
فقه الحج القرآني
من أهم الملفات البحثية في فقه الحج، فتح ملفّ الفقه القرآني للحج، و نقصد بذلك أن تجمع الآيات القرآنية حول الحج و العمرة وأمثال ذلك لتدرس بشكل مستقل، و تتحدّد الأطر التي وضعها القرآن الكريم في هذا المجال، و فائدة هذا النوع من الدراسات أنه يقدّم لنا تصوّراً علوياً للخطوط التي طرحها القرآن الكريم في مسألة الحج، حتى إذا حملها الفقيه معه إلى البحث الفقهي التفصيلي استطاع أن يعتبرها بمثابة المبادئ القرآنية الحاكمة على مجمل النصوص و القواعد والتفصيلات الجزئية لقضايا الحج.
ولا نطرح هذا الموضوع في فقه الحج و حده، وإنما نأخذ الحج أحد تطبيقات هذا الموضوع؛ وذلك أنه من المؤسف غياب الفقه القرآني كما يشير إليه العلامة الطباطبائي في الميزان حين يستنكر غياب الدرس القرآني عموماً فيقول: «وذلك أنّك إن تبصرّت في أمر هذه العلوم و جدت أنها نظمت تنظيماً لا حاجة لها إلى القرآن أصلاً، حتى أنه يمكن لمتعلّم أن يتعلمها جميعاً: الصرف و النحو، و البيان، و اللغة، و الحديث، و الرجال، و الدراية، و الفقه و الأصول فيأتي آخرها ، ثم يتضلّع بها ثم يجتهد فيها وهو لم يقرأ القرآن، و لم يمسّ مصحفاً قط، فلم يبق للقرآن بحسب الحقيقة إلاّ التلاوة لكسب الثواب أو اتخاذه تميمة للأولاد تحفظهم عن طوارق الحدثان، فاعتبر إن كنت من أهله» 3.
إذن، فالمطلوب تنشيط فعل الاستنتاج الفقهي من القرآن نفسه حتى لو كانت بعض النتائج التي نحصل عليها من البحث القرآني موجودة في الأدلّة الأخرى، فالمفترض إذا اشتركت الأدلّة في إيصالنا إلى نتيجة أن نأخذ بأقواها و أوّلها و هو كتاب الله الذي يتمتع بالقطعية السندية إلى جانب وضوح في الدلالة في كثير من الأحيان.
ولأخذ شاهد و مثال ننظر في بحث المحقق النجفي (1266ه) لمسألة الإيلاء، فإنه يصرّح في مطلع البحث بأن الأصل في الإيلاء هو الآية القرآنية المعروفة الواردة في سورة البقرة؛ ثم يقول: «بل منها يستفاد الوجه في جملة من أحكامه الآتية» 4، إذاً فبعض أحكام الإيلاء يمكن أخذها من هذه الآية الكريمة التي هي الأصل في هذا الموضوع الفقهي، لكن لما نواصل مطالعتنا لبحث الإيلاء في كتاب «جواهرالكلام» لا نجد حضوراً لهذه الآية في عمليات الاستدلال، بل الحاضر هو سائر الأدّلة كالروايات و غيرها، فما دامت الآية قادرة على أن تعطينا أجوبة عن بعض أحكام الإيلاء فلماذا غابت في البحث الفقهي حول هذه الأحكام؟
هذا هو الواقع الذي نحاول هنا الإشارة إليه، و هو الذي يستدعي إعادة إحضار الفقه القرآني للحج، ليشكّل الأساس في دراسة موضوع الحج في الفقه الإسلامي بأدلته المتنوّعة.
إننا بحاجةٍ إلى تكوين ثقافة قرآنية حجية مهيمنة؟ تحرّك رؤية الفقيه لأحكام الحج و تشكل المفاصل الأساسية التي يتحرك عبرها و يتنقل، و لا نقصد تفسيراً تجزيئيّاً بجمع الآيات القرآنية فقط وإنما بحث موضوعي متكامل يكوّن الصورة القرآنية لهذه الفريضة العظيمة.
فتاوى الحج والحاجات العملية