75وزحمة الحج والناس يملأون أرجاء أرض المناسك وكلهم متجهون إلى مكان واحد في لباس واحد في حر الشمس، والنزول من عرفة والنفرة من مزدلفة والتوجه لرمي الجمرات تذكرنا بزحمة ذلك اليوم يوم القيامة . الشمس الضاربة المحرقة والحر الشديد والعرق والزحام الخانق وما يترتب على هذا كله من متاعب وحرج وضيق و أذى . . يذكرنا ببأس يوم القيامة وهوله . .
والطواف بالبيت المبارك والسعي بين الصفا والمروة وما يرافق ذلك من الزحام الخانق والضغط الشديد ، والانتظار الطويل والصبر والتحمل والتقيد بالتعليمات الخاصة بكل منسك والابتعاد عما يسبب الأذى للآخرين ومراعاة مريضهم وكبيرهم وصغيرهم . . يذكرنا بيوم القيامة ..بل إن القيامة لتتجسّم بمثل هذه المواقف المهابة في عمرة الحج ومتعته حيث الصحاري المملوءة بالحجيج والمشاعر المكتظة بهم .. . تعلو أجسامهم ثياب بيض كالأكفان وتصهرهم أشعة الشمس وترى وجوههم تفيض عرقاً وأجسامهم كادحة وقد عنت للحي القيوم . . كما هي حالتهم حينما يقفون بين يديه تعالى للحساب وهم ينظرون إلى رحمته ولطفه بهم وهم شعث غبر، قد أخذ الجهد والإرهاق منهم مأخذه والعرق يتصبب منهم ينتظرون مغفرته ورضوانه وَ يَخٰافُونَ يَوْماً كٰانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً 1 منتشراً يخشون أن يصيبهم بشرّه وضرره ويختم أمرهم إلى نار وقودها الناس والحجارة . . لكن هذه العبادة والصدق فيها تعطي الأمل لهؤلاء وهم يجوبون عرصاتها وهم يحرمون يلبون يطوفون يصلون يسعون يقصرون يدعون يذبحون يحلقون يرجمون .. . فلا يقنطون كما تعطيهم رحمة الله تعالى هناك في عرصات يوم القيامة الأمل والرجاء والبشرى بالمغفرة والرضوان والجنة التي وعدهم إياها رب العزة رَبَّنٰا وَ آتِنٰا مٰا وَعَدْتَنٰا عَلىٰ رُسُلِكَ وَ لاٰ تُخْزِنٰا يَوْمَ الْقِيٰامَةِ إِنَّكَ لاٰ تُخْلِفُ الْمِيعٰادَ وحاشا لله أن يخلف ميعاده لأوليائه..
عن أنس بن مالك قال :
سمعت رسول الله(ص) يقول:
«إن الله تعالى يباهي بأهل عرفات الملائكة يقول : يا ملائكتي انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً أقبلوا يضربون إلي من كل فج عميق فأشهدهم أني قد أجبت دعاءهم وشفعت رغبتهم ووهبت مسيأهم لمحسنهم وأعطيت محسنهم جميع ما سألوني غير التبعات التي بينهم ...».
أو كما في رواية أخرى عن رسول الله(ص) يذكرها الطبراني: «أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام، فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك، يكتب الله لك بها حسنة، ويمحو عنك بها سيئة . وأما وقوفك بعرفة، إن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا، فيباهي بهم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي، جاءوني شعثاً غبراً من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ويخافون عذابي ولم يروني، فكيف لو رأوني؟...».
جاء ذلك بسبب الدعاء المتواصل والدموع المنحدرة والقلوب المشدودة إلى بارئها والأعناق المشرئبة إلى ربها. . آلاف يتضرعون إلى الله يتوسلون إليه، أن ينجيهم من هول المطلع ونداؤهم يعلو يؤكدون استجابتهم: «لبيك اللهم لبيك .. . لبيك لا شريك لك لبيك ...» . يعترفون له أن كل شيء فانٍ إلا وجهك الكريم وأن كل شيء هو ملكك وحدك لا شريك لك ليست النعمة و المال إلا لك وليست القوة إلا بك وليس السلطان إلا لك وإنك المالك الحقيقي الذي يستوجب منا الحمد و الشكر دون أن يكون هناك أحد سواك . . وهو مشهد يحكي لنا وقوفنا بين يديه تعالى وحده وحده.
يَوْمَ لاٰ يَنْفَعُ مٰالٌ وَ لاٰ بَنُونَ إِلاّٰ مَنْ أَتَى اللّٰهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
2
.
وأكثر الروايات تؤكد أن التلبية تعبر عن استجابة بشرية كبرى لنداء تاريخي عظيم طلب من إبراهيم شيخ الموحدين أن يعلنه في الأرض وأعطي وعداً بأن يستجيب له المؤمنون . وهو ما وقع بالفعل منذ أول أذان بالحج وإلى يومنا هذا..
أما مشاهد ذلك اليوم ووصف أهواله فنترك الآية تصوره لنا وهل هناك تصوير أبلغ منها وأدق وأصدق حتى كأنك تراها أمام عينيك:
يَوْمَ تَرَوْنَهٰا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّٰا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذٰاتِ حَمْلٍ حَمْلَهٰا وَ تَرَى النّٰاسَ سُكٰارىٰ وَ مٰا هُمْ بِسُكٰارىٰ وَ لٰكِنَّ عَذٰابَ اللّٰهِ شَدِيدٌ .
وما مشاهد الحج إلا صورة عملية ومصغرة نحياها كل عام من مشاهد القيامة.
ثم تنتقل الآيات إلى البعث يوم الفزع الأكبر حين نفخة البعث لتقرّر بلا أدنى شك ولا ريب أن تلك الساعة واقعة لا محالة، وأن الله العزيز القدير سيبعث الموتى ويخرجهم من أماكنهم التي طال انتظارهم فيها والتراب يعلو وجوههم وأجسادهم.
وَ أَنَّ السّٰاعَةَ آتِيَةٌ لاٰ رَيْبَ فِيهٰا وَ أَنَّ اللّٰهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ .
لتذكرنا أن أمر الساعة والبعث واقع لا محالة، وإن ارتبنا في قدرة الله تعالى أن يبعث أشلاءنا وهي رمة أو رميم فإن الله القادر يذكرنا أن أصلنا كان من تراب، وأن خلقنا الأول كان من ذلك التراب وأننا أبناء الأرض التي تكونّا من ترابها ومنها نشأنا وكذلك عليها عشنا ومن عناصرها استفدنا وما زلنا..
يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ تُرٰابٍ .
إن انتابكم الشك في بعثكم ونشوركم فإنا خلقنا أباكم وهو آدم(ع) من تراب، فمن قدر على أن يصيّر التراب بشراً سوياً حياً في الابتداء، قدر على أن يحيي العظام وهي رميم ويعيد الأموات ويحشرهم إليه . . أيها الناس وإن من كان قادراً على الابتداء فهو قادر على الإعادة..
وفي الحج أيضاً، تذكرة لنا في الدنيا عن ذلك اليوم عندما تنظر لنفسك بعد يوم أو يومين من ارتداء ملابس الإحرام، ترى أنك أصبحت شعثاً وقد علاك التراب والغبرة . فإذا نويت المبيت في مزدلفة، ترى الكثير من الناس تعباً، لا بل كأنه من التعب والمشقة والإعياء ميت فعلاً . فمنظر