74البشري . وإذا كان بالإمكان أن يصلي الإنسان أو يصوم وحده فقد لا يكون بالإمكان أن يحج الإنسان وحده أو لا يجد نفسه إلا وهو محاط بالكثير ممن يحجون معه، ولم يحدثنا تاريخ هذه العبادة إلا عن الحج وهم مجتمعون ، فالحج عبادة جماعية يرجى أن تحقق آثاراً تتعلق بالمجموع الإنساني، وهو نفير عام في جميع المواقف والمناسك في الإحرام وفي التلبية والطواف والسعي والوقوف في المشاعر المقدسة عرفات والمزدلفة ومنى والجمرات، يعلن فيه الجميع استجابته لمتطلبات رسالة الإسلام وأحكامه وقيمه، ورفضه لغير الإسلام من الكفر والانحراف ومناهج الشياطين من الإنس والجن.
يقول السيد الشهيد محمد باقر الصدر+: ألا ترى أنّ أهم ما يبدو للإنسان في هذا المنسك الرائع منسك رمي الجمار هو هذا الرمي المجموعي لرموز الشيطان واحداً بعد الآخر تعبيراً حسياً عن لزوم نفي الشر من الأرض بعد اتباع طريق الخير، والطواف حول رمز الخير الكعبة، والجميل في الأمر أن المسلم يشعر إذ يطوف حول مركز واحد، ويرمي رموزاً للشر ثلاثة بأن طريق الله واحد في حين أن طرق الشيطان متعددة، وباستحباب التكبير له عند كل رمية يشترك اللفظ في الموقف ليؤكد في شعور الإنسان عهده لله تعالى بأن يرمي الشر والشيطان ولا يتبعهما، ويبقى وفياً لعقيدته بأن الله خالق كل شيء وفوق كل قوة 1.
إنه بحق مؤتمر إيماني إنساني كبير لا نظير له تحت شعار واحد ونداء واحد واستجابة واحدة :
«لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ...» .
ويأمل المخلصون من أبناء الإيمان أن يساعد تطور الوعي والمعرفة عند الناس خصوصاً الأمة الإسلامية على إدراك جوهر الحج ومراميه وأهدافه ، لتعود فعالية هذه الأمة كما بدأت في حمل رسالة الإسلام الحق إلى البشرية جمعاء .
هذا فيما يتعلق بالخطاب الأول لسورة الحج يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ ... فهو خطاب عام وخطاب الحج خطاب عام أيضاً .
التقوى
إن أول ما بدأت به هذه السورة المباركة: يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ .. وفي الآية الثانية والثلاثين التي تتوسط تقريباً آيات الحج في هذه السورة ذٰلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعٰائِرَ اللّٰهِ فَإِنَّهٰا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ وللشعائر تفاسير منها :
إنها معالم دين الله والأعلام التي نصبها لطاعته، ثم اختلف في ذلك فقيل: هي مناسك الحج كلها . . وقيل: هي البدن . . وقيل: دين الله كله، وتعظيمها التزامها 2..
وسواء هي معالم دين الله أم هي مناسك الحج ومنها البدن أم هي دين الله كله وتعظيمها يعني التزامها، فإن الغاية منها هو هذا الأمر العظيم والذي هو أساس كل شيء في حياتنا «التقوى» أن لا يراك الله تعالى حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك . أو احترسوا بطاعته عن عقوبته .. . وكل ما نجده في عرصات وميادين هذه الفريضة من مناسك كلها طاعة لله تعالى ومواضع عبادة تحب السماء وجودنا فيها وتثيبنا عليه. . وهي تؤسس للتقوى وتبنيها في النفوس وتثبتها في القلوب عبر طاعة خالصة لأوامر وأحكام على جميع الحجيج الالتزام بها وإلا ترتبت على مخالفتها عقوبات. . إن الحج مدرسة نتيجتها التقوى وهو الفوز الكبير . . وإضافة التقوى إلى القلوب فَإِنَّهٰا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ لأن حقيقة التقوى تقوى القلوب ..
وتربط بين الهدي الذي ينحره الحاج وتقوى القلوب إذ إن التقوى والقول لسيد قطب هي الغاية من مناسك الحج وشعائره . وهذه المناسك والشعائر إن هي إلا رموز تعبيرية عن التوجه إلى رب البيت وطاعته. وقد تحمل في طياتها ذكريات قديمة من عهد إبراهيم(ع) وما تلاه، وهي ذكريات الطاعة والإنابة والتوجه إلى الله منذ نشأة هذه الأمة المسلمة، فهي والدعاء والصلاة سواء 3. .
ثم تأتي التقوى أيضاً في الآية الخاتمة لآيات الحج، وهي السابعة والثلاثون: لَنْ يَنٰالَ اللّٰهَ لُحُومُهٰا وَ لاٰ دِمٰاؤُهٰا وَ لٰكِنْ يَنٰالُهُ التَّقْوىٰ مِنْكُمْ ... .
وهم حين يؤمرون بنحرها باسم الله لَنْ يَنٰالَ اللّٰهَ لُحُومُهٰا وَ لاٰ دِمٰاؤُهٰا ، فإن اللحوم والدماء لا تصل إلى الله سبحانه إنما تصل إليه تقوى القلوب وتوجهاتها لا كما كان مشركو قريش يلطخون أوثانهم وآلهتهم بدماء الأضحيات على طريقة الشرك المنحرفة الغليظة 4.. .
وجاءت الآية تذكيراً للناس جميعاً وتحذيراً لهم من هول تلك الساعة وعظيم حدوثها وشدة خطرها، وأنه لا بد لهم من ذلك اليوم الرهيب يوم الحساب الأكبر، إنه يوم القيامة . فمن أول آية نقرأ قوله تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السّٰاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ .
إن فريضة الحج المباركة في أغلب مناسكها ومفاصلها تذكرنا مشاهدها بذلك اليوم العظيم وهذه المشاهد تجسّد لنا العلاقة بين الحج والحديث عن القيامة . .
فلباس الإحرام والغسل الذي قبله يذكرنا برحلة الموت وقد بدأت بالتغسيل ثم التكفين . . لباس الحج البسيط يذكرنا بالكفن الذي يلبس للموتى.. .
يذكرنا بأننا لا نخرج من الدنيا إلا بهاتين القطعتين . . وندع كل شيء خلف ظهورنا، كل ما جهدنا أنفسنا للحصول عليه وكل ما اختلفنا من أجله أو تنازعنا عليه أوتقاتلنا بسببه وتقاطعنا نذره وراءنا . .
إن الحج ولباسه يطلب منا العودة إلى حيث البداية ، بل إن الحاج يتمثل الحالة التي كانت أولاً من البساطة في المظهر واللباس . .