٧۶الحجيج في مزدلفة وهم نيام بعد وقوفهم في عرفة وأداء أعمالها ثم إفاضتهم منها بذلك الزحام الشديد وعليهم آثار التعب ويعلوهم التراب والغبار والضنك . وما أن يؤذن لصلاة الصبح في المزدلفة حتى تراهم يقومون وينفضون عنهم التراب وينشطون من جديد كما لو أنهم بعثوا من قبورهم يوم البعث.نعم إذا أتى وقت الفجر يستيقظ الناس كأنهم يبعثون من القبور: الكل بالثياب البيض يتحرك هنا وهناك يستعد إلى حركة أخرى وهي رمي الجمرات وما يرافقها من أعمال منى...
لذلك تأتي الآية السابعة لتذكرنا بالبعث من القبور:
وَ أَنَّ السّٰاعَةَ آتِيَةٌ لاٰ رَيْبَ فِيهٰا وَ أَنَّ اللّٰهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ .
وهكذا نرى أول أثر من آثار الحج في تربية الأمة: تربيتها على اليوم الآخر والاستعداد له، بأن يعيش أفراد الأمة بعض لحظاته ومعالمه العملية أثناء أيام الحج . .
الكل ساجد لله
ومن روعة الحج أنه يجعلك تستشعر أن الكون كله عبد لله وأنك خاضع لله مع من حولك . ففي يوم عرفة تشعر أنك لست وحدك من يسجد لله في هذا الكون ويدعوه، بل تشعر أن كل شيء ساجد فالخيمة التي تستظل تحتها ساجدة ، وأن جبل عرفات الذي تعلوه ساجد، بل الكون كله ساجد ، فتنضم أنت أيها الإنسان الضعيف إلى هذه المخلوقات وتشاركها في سجودها وخضوعها لله تعالى . وهذا ما نراه بوضوح في الآية ١٨:
أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّٰهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبٰالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ النّٰاسِ وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذٰابُ وَ مَنْ يُهِنِ اللّٰهُ فَمٰا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللّٰهَ يَفْعَلُ مٰا يَشٰاءُ .
في عرفة الجميع في الحج يدعون إلهاً واحداً حتى الشجر والدواب والطير والسموات والأرض كلهم يدعون ربهم ويسبحونه لكن لا نفقه تسبيحهم. .
..وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّٰ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لٰكِنْ لاٰ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ... .
إن الحج يذكرنا بالعبودية الخالصة لله تعالى فهذه حياة الأمة المسلمة تقع بين سجدتين في سورة الحج، فأول سورة نزلت فيها سجدة مع بداية البعثة كانت سورة العلق، التي جاء فيها قوله تعالى:
كَلاّٰ لاٰ تُطِعْهُ وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ بينما آخر سورة نزلت فيها سجدة كانت سورة الحج، التي نزلت مع نهاية البعثة، والتي ترى فيها قوله تعالى:
يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .
والفرق بين السجدتين يظهر النقلة العظيمة التي انتقلتها الأمة، من السجدة الأولى الموجهة للنبي(ص) وحده في سورة العلق، إلى السجدة الأخيرة التي وجهت للأمة كلها في سورة الحج . فهي نقلة نوعية في فترة محدودة، من النبي وحده في غار حراء يعبد الله تعالى ويتفكر في ملكوته وفي أوضاع قومه وما آلت إليه أمورهم من عبادة الأصنام والأوثان والظلم والطغيان والتسلط والقهر والحروب ، فاعتزلهم وما يعبدون، فنقلوا نقلة نوعية إلى أمة مؤمنة عابدة مجاهدة ..
ثم تنتقل الآيات (٢۶-٣٧) إلى ذكر مناسك الحج المختلفة، لتأتي خلالها الآية المحورية: ذٰلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعٰائِرَ اللّٰهِ فَإِنَّهٰا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ .
وإذا عدنا إلى سورة البقرة إلى الآية ١٩٧ التي تنص على أن خير ما يتزود به العبد المؤمن لآخرته هو التقوى .. . وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّٰادِ التَّقْوىٰ وَ اتَّقُونِ يٰا أُولِي الْأَلْبٰابِ خصوصاً إذا عرفنا أن العرب تطلق كلمة الزاد على طعام السفر لا طعام الحضر، ولهذ نجد الإمام علياً(ع) يتأوه:
«آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق وهول المطلع ..».
وقد جاء هذا بعد أن نفت الآية نفسها كلاً من الرفث و الفسوق والجدال، وأن لا تكون هذه الأمور حاضرة في ساحة الحج لما تسببه من إفساد للحج وآثام ومخالفات حيث قالت:
فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاٰ رَفَثَ وَ لاٰ فُسُوقَ وَ لاٰ جِدٰالَ فِي الْحَجِّ وَ مٰا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّٰهُ وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّٰادِ التَّقْوىٰ وَ اتَّقُونِ يٰا أُولِي الْأَلْبٰابِ .
ولورود هذه الكلمة في سورة الحج نحن نقف فقط عند ( ولا جدال ) الذي يعني فيما يعنيه أنه لا خصام في الحج ولا مماراة في الحج ولا ملاحاة في الحج ولا مشادة في الحج؛ لما فيه من مخالفة للتقوى وإفساد لهذا العمل العظيم. . إذن فلا جدال في الحج . الجدال المنبوذ الذي يترك البغضاء والحقد في القلوب والسوء في العلاقات والغضب الذي تمتلأ به النفوس...
والجدال مصدر جادل. . والجدال : أشد الخصام وهو مشتق من الجدالة، وهي الأرض فكأن كل واحد من الخصمين أو المتجادلين يقاوم صاحبه حتى يغلبه فيكون كمن ضرب به الجدالة أو يرميه بالجدالة قال الشاعر: