17بناءاً على ما جاء في بعض الروايات، فإن الحجر الأسود قد نزل من الجنة، وكان في البداية أبيض اللون، واسودّ تدريجياً على أثر استلامه من قبل المذنبين، حتّى أصبح كما هو عليه الآن: «.. . كان ملكاً من عظماء الملائكة عندالله...»، «إنّ الحجر كان درّةً بيضاء في الجنة...»، «.. . وكان أشدّ بياضاً مِنَ اللبن فاسودّ من خطايا بني آدم، ولولا ما مسّه من أرجاس الجاهلية ما مسَّه ذو عاهةٍ إلا برأ» 1.
بعض المفسرين الذين يبحثون عن تبريرٍ أو تفسير ماديّ لأي ظاهرة من الظواهر، قالوا في معرض نفيهم لهذا النوع من الروايات: نزول الحجر من السماء أو الجنّة، لا معنى له!! 2.
وفي الردّ على هذا الكلام و نقده لابد من القول 3: ما يؤيد الروايات التي تدور حولها بعض الإشكالات، الآيات التي ورد الحديث فيها عن إنزال النعم الإلهية من خزائن الغيب، كقوله تعالى: (وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّٰ عِنْدَنٰا خَزٰائِنُهُ وَ مٰا نُنَزِّلُهُ إِلاّٰ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) ، 4 (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وٰاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهٰا زَوْجَهٰا وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعٰامِ ثَمٰانِيَةَ أَزْوٰاجٍ) 5 و (وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ ) 6 فكلمة «الإنزال» ليست بمعنى الخلق، بل هي بمعنى التنزيل والإنزال الواقعي من وراء الطبيعة إلى عالم الطبيعة كنزول القرآن في ليلة القدر . ولكن المراد هنا، الإنزال على نحو التجلّي، و ليس بصورة التجافي، مثل نزول الثلج والمطر . أي لايعني الأمر نفاد المخازن الإلهية و خلوّها من الموجودات، بعد تنزلها إلى عالم الطبيعة من العالم الأعلى؛ لأن خزائن الله لايعتريها النقصان أو النفاد؛ (مٰا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ مٰا عِنْدَ اللّٰهِ بٰاقٍ ) 7 . والوجود الغيبي لهذه الأشياء وجود نوراني وتحمّل ذلك أمرٌ غير ميسور للجميع . من هنا فإن ظهورها في هذه النشأة اقترن بتنزّل مرتبتها الوجودية . ولكن حرمة و كرامة الموجودات المتنزلة من الخزائن الإلهية واحدة بلحاظ تباين درجات تلك الخزائن . مثلما يعتبر الحجر الأسود حالةً خاصةً.
وبناءاً على ذلك، فإن مجرّد الاستبعاد العلمي لمسألة هبوط الحجر الأسود من الجنّة لا قيمة له؛ لأن دراسة السير الأفقي للموجودات و ماضيها و حاضرها و مستقبلها الطبيعي يتم في نطاق العلوم ا لطبيعية، ولكن السير العمودي للأشياء والموجودات والنقاش حول العلة الفاعلية و الغائية لها تقع خارج نطاق العلوم الطبيعية، مهما توصلت هذه العلوم إلى تطورات ملحوظة في هذا الجانب.
ونستنتج من ذلك أولاً: إن الحجر الأسود من أحجار الجنّة والسماء، كما ورد ذلك في العديد من الروايات المعتبرة.
ثانياً: لا يوجد دليل عقلي أو نقلي يدل على خلاف ذلك.
وبناءاً على ذلك، فإن إثبات المسائل الاعتقادية على الرغم من أنه لا يمكن أن يتحقق بالاستناد إلى الخبر الواحد، ذلك أنها تحتاج إلى القطع واليقين ولا يمكن الاكتفاء فيها بالظّن، لكن بالمقابل لايوجد أيّ وجه لإنكار تلك الروايات و رفضها.
شهادة الحجر الأسود يوم القيامة
الحجر الأسود كالمسجد، يشهد يوم القيامة لصالح البعض، و هو آيةٌ من آيات الله البيّنات إلى جانب الكعبة 8، ويمين الله عزّ وجلّ في الأرض واستلامه بمنزلة البيعة لله تعالى؛ «هو يمين الله عزّ و جلّ في أرضه يبايع بها خلقه» 9.
وكما قال أميرالمؤمنين الإمام علي(ع) في ردّه على من قال عند استلام الحجر: أعلم بأنك لا تضر و لا تنفع ولكني أحبك لحب رسول الله(ص) لك، فقال(ع) : والحجر الأسود من الشهداء أيضاً يوم القيامة؛
«فوالله ليبعثنَّه اللهُ يومَ القيامة و له لسانٌ و شفتان فيشهد لمن وافاه» 10، كما أكّد الإمام الصادق(ع) في ردّه على ذلك الظنّ فقال:
«كَذِبَ ثمَّ كذب ثمَّ كذب . إنَّ للحجر لساناً ذلقاً يوم القيامة يشهد لمن وافاه بالموافاة» 11.
تنبيه: هذا النوع من الأحاديث المأثورة، والتي تصرّح بمنفعة الحجر الأسود ونحوه، يعود إلى كونه وسيلة ذات تأثير معين و الذي تجسّد بلطف الله و بركاته على هذا الحجر، و عدا ذلك فإن أيّاً من أحجار الكعبة وأمثالها ليست ضارّة بذاتها أو نافعة، كما عبّر أميرالمؤمنين(ع) بشأن سلب تأثيرها الذاتي فقال(ع) :
«.. . أحجار لاتَضُرُّ و لا تنفَع و لا تبصر و لا تسمع» 12.
ألحطيم و حجرُ إسماعيل
«الحطيم» منطقة محدّدة بين الحجر الأسود، وباب الكعبة و مقام إبراهيم(ع) ، ولكن قيل في بعض الروايات، بأنها المسافة بين الحجرالأسود وباب الكعبة فقط 13 . وحول السرّ في تسمية هذا المكان بالحطيم، قال الإمام الصادق(ع) :
«لأن الناس يحطم بعضهم بعضاً» 14.
والحطيم أفضل الأماكن حول الكعبة؛ فبعد أن ذكر الإمام الباقر(ع) حدوده قال موضحاً هذه القضية المتعلقة بالحطيم :
«إنَّ أفضلَ البقاع ما بين الركن الأسود و المقام وباب الكعبة، و ذاك حطيم إسماعيل، ووالله لو أنَّ عبداً صفَّ قدميه في ذلك المكان و قام الليل مصلِّياً حتى يجيئه النَّهارُ و صامَ النهار حتى يجيئه الليل و لم يعرف حقَّنا و حرمتنا أهلَ البيت، لم يقبل الله منه شيئاً أَبَداً» 15.
والحطيم محل نزول جبرئيل(ع) و وقوفه بين يدي بقية الله الأعظم إمام العصر والزمان(عج) . كما ورد ذلك عن الإمام الصادق(ع) قال:
«عندما يأذن الله سبحانه وتعالى بخروج القائم(عج) .. . يبعث إليه جبرئيل(ع) ؛ فيهبط جبرئيل على الحطيم.. . و يقول: أنا أوّل من يبايعك...» 16.
ويقول الأستاذ العلامة الطباطبائي(ره) كغيره من المحققين: الحطيم هو ذلك الجدار المقوس إزاء الميزاب الذهبي 17 . كما يُفهم من بعض الروايات أن جماعة يسمّون «حجر إسماعيل» الذي يقع بين الركن العراقي و الركن الغربي بالحطيم . و هذا ما ورد عن الإمام الصادق(ع) في جوابه للسائل الذي سأل عن حجر إسماعيل، فقال(ع) :