18
«إنَّكم تسمونَهُ الحطيمَ، وَانّما كان لغَنَم إسماعيلَ، وَاِنَّما دَفَنَ فيه أمَّهُ و كرهَ أن يُوطَأَ قَبرها فحجَر عليه، و فيه قبورُ أنبياء» 1.
ومن بين الوجوه المحتملة بشأن السرّ في تسمية الحطيم بهذا الإسم، والذي اشير اليه أيضاً في الرواية المذكورة، أن النبي إبراهيم(ع) كان يهشّم 2 التبن والعلف هناك لإطعام أغنامه، ويسمّون العلف بالحطيم والتبن بالحطام؛ لأن المحطوم هو الذي تم تهشيمه وتكسيره . ونقلت في بعض الكتب اللغوية وجوه أخرى أيضاً في سبب تسمية حجر إسماعيل بالحطيم . وفيها: أن هذا الجزء قد فُصِلَ و كُسِرَ عن البيت . والآخر أن الأعراب في الجاهلية، كانوا يلقون الملابس التي كانوا يلبسونها حال الطواف في ذلك المكان و كانت تتحطم و تبلى تدريجياً 3.
«حجر إسماعيل» الذي يعدّ من آيات الله البينات 4، هو مدفن إسماعيل ومجموعة أخرى من أنبياء الله 5، و هو مدفن أم إسماعيل و بناته: ، و قد حجر(ع) أطراف قبر أمه هاجر كي لا يطأه الطائفون 6، و حجر إسماعيل ليس قبلة ولكنه في ضمن المطاف كالكعبة، احتراماً لتلك القبور، و الطواف في داخله باطل.
وحجر إسماعيل من أفضل الأماكن في المسجد الحرام لأداء الصلاة فيها 7 . كما كان المكان الذي يصلي فيه شبر و شبير أولاد هارون(ع) 8، وصلّى فيه الأئمة المعصومون: أيضاً 9، وكانوا يدعون الله فيه بخالص الدعاء 10 . كما كانوا يستقبلون الناس هناك ويجيبون على أسئلتهم واستفساراتهم 11 . و قد نصب ميزاب الكعبة فوق حجر إسماعيل . وقد ورد الحديث في بعض الروايات، عن الشفاء بماء المطر الذي ينزل من هذا الميزاب 12 . وآخر الكلام عن حجر إسماعيل أنه يستحب للحاجّ أن يُحرم منه.
مقام إبراهيم(ع)
إحدى العلامات والآيات البيّنات لله تعالى في مكة «مقام إبراهيم» . مثلما أشار الإمام الصادق(ع) في بيان المراد من كلمة «بيّنات» في الآية المباركة: فِيهِ آيٰاتٌ بَيِّنٰاتٌ 13، فقال(ع) : «مقام إبراهيمَ حيث قامَ على الحجر فأثَّرت فيه قدماه، و الحجر الأسوَدُ، و منزِلُ إسماعيل(ع) » 14 . و كان هذا الحجر موضوعاً في البداية على وجه الأرض بشكل طليق إلى جوار الكعبة . ثم وضعوه في الملتزم لكي لاينقل من مكانه . و موضع المقام الآن مُبرَّزٌ أيضاً وموضوع بداخل صندوق معدني، ومنقوش على جبهة الشريط المعدني الذي وضع الحجر على حافته جملة نورانية تقول: وَ لاٰ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمٰا وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ 15 حيث يمكن رؤيتها و قراءتها من قبل الجميع بكل وضوح، مما يدلل على حُسن تدبير المسؤولين عن الحرم.
مسألة تغيير مقام إبراهيم وردت في بعض الأحاديث؛ حيث قال الإمام الباقر(ع) :
كان المقام في البدء، بالقرب في جدار الكعبة . و قاموا بنقله قبل الإسلام إلى موضعه الحالي . وأعاده الرسول الأكرم(ص) بعد فتح مكة إلى موضعه الأصلي، ولكن تغيّر مكانه مرةً أخرى في عصر الخلفاء:
«كانَمَوضعُ المقام الذي وَضَعَهُ إبراهيم(ع) عِندَ جِدارِ البيتِ فلم يزل هناكَ حَتّى حَوَّلَهُ...» . ولكن بما أنَّ الوضع الموجود اقِرَّ من قبل الأئمة المعصومين: ولم ينتقد أهل بيت النبوة: ما يترتب على هذا الوضع من حكمٍ فقهي، نفهم من ذلك أن إقامة صلاة الطواف عند الموضع مبرءة للذمة.
وقد قال الإمام الباقر(ع) في صدر الرواية المذكورة: في السنة التي جرف فيها السيل المسجد الحرام كنت في مكة مع الإمام الحسين(ع) 16 . و خاطب الإمام الحسين(ع) الناس الذين كانوا خائفين من زوال مقام إبراهيم(ع) قائلاً: اعلموا! أنّ السيل لن يجرف مقام إبراهيم أبداً؛ لأن الله قد جعله عَلَماً وآيةً له؛ «أن الله قد جعله علما لم يكن ليذهب به » 17.
الملاحظة الجديرة بالإشارة هنا، أنه لايمكن اعتبار جميع الآيات التي وردت بشأن مكة على أنها وردت من باب المعجزة وخلافاً للعادة و الطبيعة، استناداً إلى هذه الآية المباركة في قوله تعالى: فِيهِ آيٰاتٌ بَيِّنٰاتٌ بما فيها هذه الآية الشريفة؛ لأن المراد بالآية، ليس فقط المعجزة من قبيل معجزة ناقة صالح(ع) ، و شقّ القمر و نحو ذلك، بل الآية بمعنى العلامة والأمارة التي تدلّ على الحق وتذكّر الناس بذلك، سواء كانت تكوينية أم تشريعية أم كليهما معاً . وكما قال بعض المفسرين: إن جملة وَ مَنْ دَخَلَهُ كٰانَ آمِناً هي من باب التفصيل بعد الإجمال ومصداق لآيات بينات مذكِّرَةً بالحق و من العلامات الإلهية، دون أن يكون في البين أمرٌ خارقٌ للعادة.
فإذا صارَ «مقام إبراهيم» بياناً لقوله تعالى: فِيهِ آيٰاتٌ بَيِّنٰاتٌ ، فإن المستفاد منه ما يلي: كما أن إبراهيم(ع) كان لوحده أمة؛ إِنَّ إِبْرٰاهِيمَ كٰانَ أُمَّةً قٰانِتاً لِلّٰهِ حَنِيفاً 18، فإن آثار أقدامه و مقامه أيضاً لوحدهما آيات بيّنات و«أمة واحدة» في موضوع الإعجاز 19.
ولعل السرّ في التعبير بصيغة الجمع يتمثل في أنّه:
أوّلاً: إن الحجر الصلد والقوي أصبح كالعجين في تغيير شكله.
ثانياً: المكان المحدد لذلك أصبح على شكل العجين، و ليس كل الحجر.
ثالثاً: تقبّله لآثار الأقدام إلى عمق معين والبقيّة بقيت بحالتها الصخرية.
رابعاً: بقي محفوظاً من سرقة جميع الطغاة الذين أرادوا إخفاء هذا الأثر ومحوه.
خامساً: بقي محفوظاً من سرقة سرّاق القطع الفنية والأثرية الذين هم بصدد سرقة المواد النفيسة ذات القدم و القدامة 20.