107
يقول الشيخ المكارم الشيرازي:
«إن في هاتين الروايتين استدلالاً لطيفاً يتفق تماماً مع المقاييس والموازين القانونية المعمول بها أيضاً، فإن الاستدلال يقول: إن لمعبد تقصده الجماهير كالكعبة، قد بني يوم بني على أرض لا أحد فيها، الحق والأولوية في تلك الأرض بقدر حاجته، وحيث إن الحاجة يوم اسّس لم تكن تدعو إلى أكثر من تلك المساحة التي أقيم عليها أول مرّة كان للناس أن يسكنوا في حريم الكعبة، أما الآن وقد اشتدت الحاجة إلى مساحة أوسع كما كانت عليه لتسع الحجيج، فإن للكعبة الحقّ في أن تستخدم أولويتها بالأرض» 1.
وجاء الإسلام
حظيت الكعبة المشرفة في ظل الإسلام ورسالته الخالدة ورسوله العظيم على مكانة كبيرة تتناسب وما أعدته لها السماء من دور مهم وخطير في بناء الإنسان المؤمن والمجتمع المؤمن والأمة المؤمنة نفسياً وروحياً ودينياً ووعياً ومعرفة .. . لهذا كان همّ الرسول(ص) وكان هدفه الأول بعد الانتصار على أعدائه مشركي مكة هو إعادة دورها المرسوم لها منذ أذان نبي الله إبراهيم(ع) والذي غيبه المشركون وشوّهوه. . فأصدر(ص) أوامره بعد فتح مكة بتطهير الكعبة من الأصنام والأوثان والتماثيل، وراح يكسو الكعبة بكسوة من اليمن، وأمر بتطييبها.
ومن الثابت أن حدود المسجد الحرام هي الدائرة المعروفة، دائرة المطاف نفسها، وهذه الدائرة لم يكن لها سور ولا جدار معين متميز وإنما كانت بيوت قريش التي تحيط بدائرة المطاف تشكّل دور السور . وقد جعلوا بين كل بيتين أو ثلاثة ممراً ومنفذاً يدخل الناس منه إلى المسجد.
إذن لم يكن للكعبة في عهد النبي(ص) سور متميز يحيط بها، بل كانت بيوت قريش المجاورة له تحيط بها وتفتح على المطاف الذي يحيط بجسم الكعبة، ولم يحدث تغيير يذكر في عمارة الكعبة في عهد الرسول(ص) ولا في عهد الخلافة الأولى .
ولما كان عهد الخلافة الثانية، ضاقت مساحة المطاف حول الكعبة بسبب زيادة أعداد المسلمين الآتين للحج، فطلب الخليفة عمر بن الخطاب من أهل قريش أن يفسحوا مكاناً لتوسيع المطاف، وذلك بشراء منازلهم المطلّة على الكعبة، فلما رفضوا ذلك نزع ملكيتها ووضع الأموال في بيت المال لمن يطلبها، وهدمت البيوت المحيطة بالمطاف القديم ووسعت مساحة المطاف الذي يحيط بالكعبة، وحتى لا تزحف بيوت قريش مرة أخرى على المطاف الذي يحيط بالكعبة قام ببناء سور حول المطاف من الخارج بارتفاع قامة الإنسان، وجعل فيه عدداً من الأبواب وكان ذلك في السنة السابعة عشرة من الهجرة النبوية الشريفة .
وفي عام 26 ه، أجرى الخليفة عثمان بن عفان توسعة أخرى حول الكعبة المشرفة وسورها حيث تم توسيع المطاف بعد هدم عدد آخر من بيوت أهل قريش المحيطة بسورها الخارجي الذي بناه الخليفة الثاني من قبل، كما أنه بنى لأول مرة سقائف ثلاثة حول مساحة المطاف خصّصها للصلاة، وكانت هذه السقائف تؤدي إلى أروقة ؛ وبهذه التوسعة يكون الخليفة عثمان بن عفان أول من بنى مسجداً محاطاً بسور حول بناء الكعبة المشرفة.
ولم يكن لهذا المسجد منبر حتى أحضر معاوية بن أبي سفيان منبراً معه حين حضوره لأخذ البيعة لابنه يزيد من أهل مكة، ووضع المنبر في المسجد وكان ذلك عام 47 ه- .
وفي الفترة التي سيطر فيها عبدالله بن الزبير على مكة المكرمة أجرى بعض التعديلات على عمارة الكعبة، وعندما سيطر الأمويون مرة أخرى على مقاليد الحكم أعادوا بناء الكعبة على ما كانت عليه وقت الرسول(ص) وكان ذلك على يد الحجاج بن يوسف، من قبل الخليفة عبد الملك بن مروان.
وظلت الكعبة المشرفة على هذا الشكل لمدة لا تقل عن ألف عام بدون تغيير يذكر، اللهم إلا الإضافات التي قام بها الخليفة الوليد بن عبد الملك الذي أجرى عمارة كبيرة في المسجد الحرام، وكذلك الإضافة التي تمت في عهد الخليفة المهدي العباسي، وأصبحت الكعبة تتوسط صحن المسجد الحرام .
في عهد المماليك
ولما جاء حكم المماليك اهتمّ سلاطينهم بالمسجد الحرام، واعتنوا به ووالوه بالإصلاح والتجديد، فأوقفوا عليه الأراضي الزراعية والعقارات في مصر وبلاد الشام، وكان ذلك في عهد السلطان بيبرس البندقداري والمنصور قلاوون، والناصر محمد بن قلاوون والأشرف شعبان..
ومن العمارات الهامة تلك التي قام بها السلطان الناصر فرج بن برقوق عام 802 ه، ففي يوم السبت 28 شوال عام 802 ه، اجتاحت النيران رباطاً عند باب الحَزْوَرَة بالجانب الغربي من المسجد الحرام، ولم تلبث النيران أن انتقلت إلى سقف المسجد نفسه وعمت الجانب الغربي وأجزاء من الرواقين المقدمين من الجانب الشامي، وأدى الحريق إلى تخريب ثلث المسجد وتدمير مائة وثلاثين عموداً من أعمدة المسجد، فقام السلطان الناصر فرج بإصلاح ما فسد من البناء .
ومن أهم العمارة الأخرى التي قام بها السلطان الأشرف برسباي، فقد شملت المسجد كله تقريباً، إذ تم فيها إقامة عشرات من العقود الحجرية وتجديد الكثير من الأبواب وتعمير السقوف وطلائها وإصلاح سقف الكعبة المشرفة ورخامها وأخشابها وحلقات الحديد التي تربط كسوة الكعبة المشرفة، ثم كانت عمارة السلطان قايتباي عام 885 ه- وشملت أجزاء كبيرة من المسجد الحرام وأبوابه ومآذنه.
في العهد العثماني