106إن مكة المكرمة تقع غرب الحجاز في أرض محاطة بالجبال من جميع جهاتها، ولا يوجد لها سوى أربع مداخل، هي المدخل الشمالي الشرقي، ويفضي إلى وادي منى، والمدخل الشمالي الغربي ويفضي إلى وادي فاطمة، والمدخل الجنوبي ويؤدي إلى اليمن، والمدخل الغربي ويؤدي إلى سيناء جدة .
وتحدث المصادر الإسلامية والتاريخية أن الكعبة أسسها آدم(ع) وهناك من يذهب إلى أن الملائكة التي لم تنقطع عن زيارتها أبدأ منذ بذرتها الأولى واستمرت زياراتها لهذه البقعة الطاهرة حتى ورد عن ابن عباس:
«أن جبريل(ع) وقف على رسول الله(ص) وعليه عصابة حمراء قد علاها الغبار فقال له رسول الله(ص) :
ما هذا الغبار أرى على عصابتك أيها الروح الأمين ؟
قال: إني زرت البيت فازدحمت الملائكة على الركن، فهذا الغبارالذي ترى مما تثير بأجنحتها» 1.
فالملائكة هم الذين قاموا ببناء الكعبة في هذا المكان بأمر السماء وبعد أن أذن لهم الله تعالى بذلك قبل خلق الإنسان مما يدل على عراقة تاريخها وأنها تعرضت للتهديم بسبب الطوفان الذي وقع في عهد النبي نوح(ع) فجددها إبراهيم الخليل(ع) . ومن الجدير ذكره أن الكعبة جدد بناؤها اثنتي عشرة مرة.
لقد ظلت الكعبة المباركة مندثرة زمناً تحت الرمال، حتى عيّن الله سبحانه وتعالى موقع البيت لسيدنا إبراهيم(ع) وساعده في عمارتها سيدنا إسماعيل(ع) ، وكان ذلك منذ قرابة أربعة آلاف عام، وبناء سيدنا إبراهيم يعتبر البناء الثاني للكعبة المشرفة، حيث ورد في القرآن الكريم أن سيدنا إبراهيم وابنه سيدنا إسماعيل رفعا قواعد البيت، مما يدل على أنه كان موجوداً من قبل ذلك، وهو البناء الذي شيده الملائكة المكرمون؛
ويصف أبو الوليد محمد بن عبدالله بن أحمد الأزرقي الكعبة التي بناها إبراهيم(ع) بأنها كانت بناء ذا جوانب أربعة، ارتفاعها تسعة أذرع وكان بابها إلى الأرض، وجعل سيدنا إبراهيم(ع) في جدارها حجراً أسود علامة على بداية الطواف حولها، ثم أمر الله تعالى نبيه إبراهيم(ع) بأن يؤذن في الناس بالحج، وقد أسمع الله تعالى جميع خلقه هذا النداء. . وتفضل الله سبحانه وتعالى فجعل هذا البيت حرماً طاهراً آمناً يلجأ إليه الناس ويأمنون فيه على أنفسهم . وأصبحت الكعبة بعد السنة الثانية من الهجرة النبوية الشريفة قبلة المسلمين، يتجهون إليها في صلاتهم.
هذا، وإن اختيار أعرق البيوت وأقدمها ليكون قبلة للمسلمين، يعد أفضل من اختيار أي مكان وأي موقع آخر. . فالآية تشير إلى أسبقية الكعبة على جميع الأماكن الأُخرى، وإلى تاريخها الطويل الضارب في أعماق الزمن، معتبراً ذلك أول وأهم ما تتسم به الآية المذكورة، وأن هدفها أن تكون للناس، وهي بيت الله كما تسمى وضعت لأجل الناس، وهذا التعبير يكشف عن حقيقة هامة وهي: أن كلّ ما يكون باسم الله ويكون له، يجب أن يكون فى خدمة الناس من عباده، وأن كلّ ما يكون لخدمة الناس وخير العباد فهو لله سبحانه.
وقدم الكعبة وأنها أول بيت وضع في هذه الأرض يجعل لها فضيلة وميزة على غيرها من البيوت الأخرى.
ويتضح هذا مما دار بين الإمام الصادق(ع) وأبي جعفر المنصور الخليفة العباسي، وبين الإمام موسى الكاظم(ع) والمهدي العباسي حينما أرادوا توسعة المسجد الحرام بعد أن أخذ عدد المسلمين في الازدياد، وعلى أثر ذلك كان يتزايد عدد الحجاج والوافدين إلى البيت الحرام، ولهذا كان المسجد الحرام يتعرض للتوسعة المستمرة على أيدي الخلفاء في العصور المختلفة.
فقد جاء في تفسير العياشي أن أبا جعفر المنصور طلب أن يشتري من أهل مكة بيوتهم ليزيدها في المسجد، فأبوا فأرغبهم، فامتنعوا فضاق بذلك، فأتى أبا عبدالله الصادق(ع) فقال له: إني سألت هؤلاء شيئاً من منازلهم، وأفنيتهم لنزيد في المسجد، وقد منعوني ذلك فقد غمّني غماً شديداً، فقال أبو عبدالله(ع) : «أيغمك ذلك وحجتك عليهم فيه ظاهرة؟» فقال: وبما أحتج عليهم؟ فقال: «بكتاب الله»، فقال: في أي موضع؟ فقال: «قول الله عزّوجلّ:
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّٰاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ )
قد أخبرك الله أن أول بيت وضع للناس هو الذي ببكة، فإن كانوا هم تولوا قبل البيت فلهم أفنيتهم، وإن كان البيت قبلهم فله فناؤه» . فدعاهم أبو جعفر المنصور فاحتج عليهم بهذا، فقالوا له: اصنع ما أحببت.
وقد جاء في ذلك التفسير أيضاً أن المهدي العباسي لما بنى في المسجد الحرام بقيت دارٌ احتج إليها في تربيع المسجد، فطلبها من أربابها فامتنعوا، فسأل عن ذلك الفقهاء فكلّ قال له: إنه لا ينبغي أن يدخل شيئاً في المسجد الحرام غصباً، فقال له علي بن يقطين: يا أميرالمؤمنين! لو أنك كتبت إلى موسى بن جعفر(ع) لأخبرك بوجه الأمر في ذلك، فكتب إلى والي المدينة أن يسأل موسى بن جعفر(ع) عن دار أردنا أن ندخلها في المسجد الحرام فامتنع علينا صاحبها، فكيف المخرج من ذلك؟ فقال ذلك لأبي الحسن(ع) ، فقال أبو الحسن(ع) : ولابدّ من الجواب في هذا؟ فقال له: الأمر لابدّ منه، فقال له: اكتب:
«بسم الله الرحمن الرحيم، إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها، وإن كان الناس هم النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها».
فلما أتى الكتاب إلى المهدي أخذ الكتاب فقبله لفرحه الشديد، ثم أمر بهدم الدار فأتى أهل الدار أبا الحسن(ع) فسألوه أن يكتب لهم إلى المهدي كتاباً في ثمن دورهم فكتب إليه أن ارضخ لهم شيئاً فأرضاهم.