651 - قد يؤثّر أداء الإنسان لبعض الواجبات على تشجيع الآخرين وحثّهم على فعلها والتقيّد بها، ومن الواضح في مثل هذه الحالة أن يكون فعله على حاله، بل لو قصد بفعله هذا أيضاً حثّ الآخرين والتفت ربّما يتضاعف الثواب من ناحية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ لا شكّ أنّه سوف يكون بفعله آمراً ناهياً، بل إنّ بعض الفقهاء القدامى كان يفسّر «اليد» في روايات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بامتثال الآمر الناهي للتكاليف الشرعيّة ليكون قدوةً لغيره، كما يظهر - على ما قيل - من سلار الديلمي في «المراسم العلوية» 1، ومعه فلا إشكال في بقاء كلّ شيء من طرف الفاعل الأوّل على حاله، بل قد يصبح عمله هذا مجمعاً لأداء وظيفتين شرعيّتين، هما: الحجّ والأمر بالمعروف، أو الصلاة والأمر بالمعروف و... كما أنّ الطرف الآخر المنفعل تبقى الأحكام في حقّه على حالها، بل يشتدّ الأمر عليه بعد ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من طرف الآخرين في حقّه، ممّا فيه المزيد من إلقاء الحجّة عليه.
2 - وقد يفعل الإنسان الواجبات ويترك المحرّمات دون أن يكون لذلك أيّ تأثير على أفعال الآخرين لا سلباً ولا إيجاباً، فمن الواضح أنّه لا موجب من طرف الآخرين لإيجاد تغييرات في الفعل وأحكامه وموضوعه، إذ لا يعارضه شيء ولا يزاحمه، وهذا واضح.
3 - إلاّ أنّ القضيّة في أنّ بعض التكاليف الشرعيّة التي ينجزها الإنسان قد تدفع في الطرف المقابل إلى معصية الله تعالى؛ وأعطي مسبقاً مثالاً من باب المستحبّات، فقد يُحرز الإنسان أنّه لو تزوّج امرأةً ثانيةً مع زوجَته فسوف يوقع ذلك زوجته في غير محرّمٍ من المحرمات، وكذا الحال في الواجبات، فقد يكون ارتداء الحجاب أو التعلّم في المدرسة - وأحدهما واجب والثاني مستحبّ في الحدّ الأدنى - موجباً لدفع الآخرين لخلع حجاب الفتاة ظلماً وعدواناً؛ ممّا يوقعهم في الحرام، أو يعلم الإنسان أنّه لو حاور شخصاً آخر حواراً، لنفرض أنّه واجب أو مستحبّ، فإنّ الطرف الآخر سوف تصدر عنه مواقف غير شرعيّة بوصفها ردّ فعل سلبي على أداء المؤمن لوظيفته، وهذه قضية عظيمة البلوى.
وهنا، لا موجب للخروج عن عنوان الوجوب والحرمة أو الإطاعة والامتثال، لمجرّد أنّ الآخرين لا يعجبهم ذلك، فإنّ هذا ما تعنيه آية: وَ لاٰ يَخٰافُونَ لَوْمَةَ لاٰئِمٍ 2، فإنّ روح هذه الآية يدلّ على أنّ الإنسان لا ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار آراء الآخرين ومواقفهم من إيمانه وتديّنه، بل عليه أن يكون في شخصيّته الإيمانية قويّاً عصاميّاً لا تهزّه رياح آراء الآخرين فيه ومواقفهم، وهذا ما تعطيه بعض الآيات الدالّة على أنّ القرآن يزيد الظالمين انحرافاً وفساداً وهلاكاً، بعنادهم وكفرهم.
نعم، قد تطرأ عدّة عناوين ثانوية توجب تغيير هذا المبدأ الأصيل في الشريعة الإسلامية، وهذه العناوين هي:
العنوان الأوّل: عنوان حفظ حرمة المؤمنين، وهو من العناوين الفقهيّة الأساسيّة، فإذا لزم من أداء واجب أو ترك حرام هتك حرمة المؤمنين، بحيث يصل الأمر إلى حدّ يتعدّى الفرد نفسه إلى حفظ حرمة الجماعة المنتسبة إلى الدِّين الإسلامي، فهنا تحسب المصالح والمفاسد، فإن وصل الأمر إلى حدّ أهمّية ملاك حرمة المؤمنين على الواجب الآخر سقط الوجوب والعكس هو الصحيح.
ويختلف تشخيص الموارد، ففي القضايا العامّة التي إذا أوكلت إلى آحاد الناس لزم الهرج والمرج في التطبيق يكون المرجع في التحديد هو الحاكم الشرعي المطّلع على حيثيّات الموضوع والحكم معاً، وفي غير هذه الموارد يوكل الأمر إلى الفرد نفسه، شريطة أن يكون دقيقاً في حسابه، فلا يبرّر الفرار من التكليف الشرعي بعناوين وأغلفة دينية كما حصل ويحصل كثيراً.
العنوان الثاني: عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيما لو كان ترك الواجب أو فعل الحرام يساعد على ذلك، وكانت شروط الأمر والنهي متحقّقة، فهناك يقع التزاحم بين واجب الأمر بالمعروف والواجب الآخر، على تقدير عدم وجود سبيل آخر للأمر بالمعروف غير هذا السبيل، وهنا تلحظ الأهمّية، فقد تكون أحياناً لصالح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد لا تكون.
العنوان الثالث: عناوين الاضطرار والحرج والتقيّة، فقد يُلحق أداء الواجب بالإنسان عندما يدفع الآخرين كردّ فعل سلبي إلى أذيّته.. قد يلحق به الضرر أو بأحد المؤمنين الآخرين، وكذا قد يكون الإتيان بالواجب نتيجة ردّ فعل الآخرين حرجيّاً، وهكذا، وهنا تطبّق قواعد باب الحرج والتقيّة والاضطرار، شرط أن يكون التطبيق في غاية الدقّة والأمانة، حتّى لا يجري التذرّع بوهم الحرج أحياناً للتفلّت من التكاليف الشرعيّة الإلهيّة.
وإذا لم توجد هذه العناوين الطارئة وأمثالها لم يجز التخلّف عن الإلزامات لعناد الآخرين، قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مٰا ذٰا أَرٰادَ اللّٰهُ بِهٰذٰا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ مٰا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفٰاسِقِينَ 3، وقال سبحانه: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مٰا تَشٰابَهَ مِنْهُ ابْتِغٰاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغٰاءَ تَأْوِيلِهِ ... 4، فوجود الحقّ قد يدفع الآخرين إلى الباطل، ولا يكون ذلك مبرّراً - ما لم تطرأ مثل العناوين المشار إليها - للتخلّي عن الحقّ، وإلاّ كان القرآن حينئذ مسبّباً للضلالة والغواية والعياذ بالله سبحانه، نعم، قد يكون فعل واجب على شخص موجباً لوهم شخص آخر يوقعه في الحرام الواقعي، وهذا أمرٌ آخر.
من هنا، يظهر الحال في المستحبّات والمكروهات؛ فإنّها قد تؤدّي إلى ردّات فعل على طرف آخر، وما دامت ردّة الفعل ناشئة عن عناد وقصد للباطل مع علم بكونه باطلاً، فإنّ هذا لا يبرّر التخلّي عنها ما لم تطرأ مثل العناوين السالفة الذِّكر، والتي قد تجمعها قوانين التزاحم العقلائية، نعم إذا أوجبت سقوط الآخرين في الوهم قد تكون مشكلةً من ناحية تغرير الجاهلين، إلاّ مع الإلفات بعد فعلها.
نظريّة ترابط الأفعال ودورها في الربط بين الفقه الفردي والمجتمعي
وانطلاقاً من مجمل ما تقدّم، لا يصحّ للإنسان أن يظنّ - من الناحية الشرعيّة - أنّ أفعاله التي يقوم بها، سواء كانت واجبات أم محرّمات أم مستحبّات أم مكروهات أم مباحات، بمعزل عن الآخرين وردّات فعلهم، بل إنّ الآخر في أيّ فعل من الأفعال له دور أحياناً في عنونة الفعل بعناوين قد تغيّر الحكم، أو تقوّيه، أو تنجزه، أو تقيّده أو.. وهذا ما يؤكّد تواشج الحياة الفردية والحياة الاجتماعية، وصعوبة فصلهما عن بعضهما البعض، فالأصحّ - وما نبحثه أنموذج بسيط لهذا التداخل - عدم وجود فقه فردي وفقه اجتماعي، بل - وهو ما يظهر من النظريات الأخيرة التي طرحها الإمام الخميني