643 - كما قد يكون عصيان الطرف الأوّل رافعاً لموضوع التكليف عن الطرف الثاني، فهنا يسقط التكليف عن كاهل الطرف الثاني لفرض انعدام موضوعه، ولا معنى للحديث هنا عن فرضيّة التعجيز؛ لأنّ المفروض أنّ الطرف الثاني لم يعجّز نفسه وإنّما أُعجز عن أن يقوم بالواجب، فلا مسؤوليّة عليه ولا عقاب ولا خطاب.
4 - وقد يكون عصيان الطرف الأوّل موجباً لتعمّد الآخرين المعصية ولو عن تقصير منهم، كما في الشخص الذي يتخلّف عن أداء فريضة الحجّ، ويكون له أنصاره وأتباعه - من أهل عشيرته أو حزبه - فيتّخذون موقفه عناداً ولجاجاً، فهنا تصدق المعصية على الطرفين معاً، ولا تختصّ بالطرف الأوّل حتّى لو تعنون - كما قلنا سابقاً - بالإعانة على الإثم، لأنّ عصيان الآخرين - كائناً مَن كانوا - ليس مبرّراً لعصيان الإنسان نفسه ما دام التكليف منجّزاً في حقّه، نعم إذا كانت معصية الأوّل موجبةً لتوهّم الآخرين عدم توجّه تكليفٍ ما إليهم فتركوه لا عن عناد بل عن جهل وقصور، لم يكن عليهم في ذلك حرج إلاّ إذا كانوا مقصّرين في التعلّم، ويلحق الطرف الأوّل العاصي حرمة إضافية على تقدير معرفته بجهلهم وتوهّمهم حيث كان يجب عليه تعليمهم وإرشادهم إلى عدم الترابط بين فعله وفعلهم، فعدم قوله هذا لهم مع التفاته للأمر معصيةٌ اخرى ناشئة عن إيهام الآخرين وإبقائهم في الجهل، مع أنّ وظيفة تعليم الجاهلين ثابتة شرعاً إلى جانب وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الحالة الثانية: أن يكون فعل الطرف الأوّل مباحاً أي غير إلزامي، بمعنى أنّه لا هو بالمعصية ولا هو بأداء الواجب الشرعي، فهنا تارةً يعكس أثراً إيجابيّاً على أفعال الآخرين، وأُخرى أثراً سلبيّاً، وثالثة يكون حياديّاً بالنسبة إليها لا يؤثّر فيها لا سلباً ولا إيجاباً.
كما أنّه تارةً يحقّق موضوعاً وأُخرى يُعدمه وثالثة يحول دون تحقّقه بالنسبة لأفعال الآخرين.
أ - فإن ترك أثراً إيجابيّاً فبها ونعمت، يظلّ على الإباحة حينئذ، إلاّ إذا صار مقدّمةً لواجب فتلحقه قواعد مقدّمة الواجب، فإن كان الفاعل ملتفتاً قاصداً كان مطيعاً على الكلام الموجود في أصول الفقه في الإطاعة والثواب في باب الوجوب الغيري.
ب - وإن ترك الفعل أثراً سلبيّاً على الآخرين، بأن أوقعهم في معصية أو تخلّف عن واجب، فإن لم يكن الفاعل ملتفتاً إلى ذلك فلا شيء عليه، أمّا إذا كان ملتفتاً فإن كان فعلهم لا عن عناد بحيث توجد علاقة اضطرار أو إلجاء إلى الفعل ولو عرفاً، صار الفعل حراماً لكونه إمّا صدّاً عن سبيل الله أو إعانةً على الإثم، أمّا إذا توسّط بين الفعل المباح لزيد والحرام لعمرو نيّة عمرو وعناده بحيث لا يُنسب الفعل الحرام إلى زيد لا بالمباشرة ولا بالواسطة ولا بالإعانة و.. فإنّه لا يغدو المباح حراماً بذلك كما هو واضح، بل تكون الحرمة لاحقة لفعل الطرف الثاني، نعم قد يُلزم الفاعل للمباح بتركه مع علمه بالأمر من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع تحقّق سائر شروطه، ولم يكن هناك سبيل آخر للأمر يُعمل به.
ج - أمّا إذا كان الفعل حياديّاً إزاء أفعال الآخرين، فلا محالة يظلّ على حكمه الأوّلي بالإباحة، لعدم عروض عنوان يغيّر حكمه، فيما تظلّ الأحكام على الآخرين على حالها.
د - وأمّا إذا أثّر الفعل في موضوع حكم يلحق أفعال الآخرين:
1 - فإذا حقّق موضوعاً لحكم آخر - كائناً ما كان - ثبت الحكم الآخر على صاحبه، لتحقّق موضوعه، ولا شيء على الفاعل الأوّل. نعم، للطرف الثاني أن يسعى دون فعل الأوّل لفعله المباح حسب الفرض كي يحول دون تحقّق الموضوع؛ لأنّه لا يكون عاصياً بذلك ما دام الحكم لم يصر فعليّاً بعدُ.
2 - أمّا إذا حال دون تحقّق موضوع، فالأمر كذلك أيضاً؛ يظلّ على حاله فيما لا يلحق الحكم الثاني الطرف الثاني لفرض عدم تحقّق الموضوع في حقّه، والحيلولة دون فعليّة الأحكام على الآخرين لا دليل يثبت حرمتها ما لم تكن الحيلولة نفسها - كفعل بقطع النظر عن وصف الحيلولة - متعنونةً بعنوان المعصية، فيلحقها حكمٌ آخر خارج عمّا نحن فيه.
3 - أمّا إذا أعدم موضوع حكم كان موجوداً وفعليّاً، فمقتضى القاعدة عدم وجود أي مشكلة، إلاّ من ناحية الصدّ عن سبيل الله، ومثال ذلك أن تحصل الاستطاعة للمكلّف لكنّ المطارات توقف إقلاع طائرة هذا المكلّف بحيث لا يمكنه السفر بعد ذلك، ونبني في باب الاستطاعة على أنّ تخلية السرب مفهوم مقوّم للاستطاعة نفسها، ففي هذه الحال امتناع المطار عن السماح للطائرة بالإقلاع إعدامٌ لموضوع الحكم وهو تخلية السرب حيث كانت متحقّقةً حسب الفرض، فهذا يوجب سقوط وجوب الحجّ عن المكلّف من جهة، كما أنّ إقفال المطار في حدّ نفسه ليس محرّماً، لكنّه قد يصدق هنا التحريم من باب الصدّ عن سبيل الله، إذ بهذا الفعل سيُصدّ عددٌ من الحجيج عن سبيل الله ويمنعون عن أداء فرائضهم، فبقطع النظر عن القواعد الموجودة في باب الحكم والموضوع، قد يصدق عرفاً هنا أنّه إذا لم يكن هناك مبرّر شرعي بمنع إقلاع الطائرة يكون هذا المنع حراماً، وكذلك مسألة إعطاء تأشيرة الدخول وغير ذلك إلاّ إذا قيل بأنّ عنوان الصدّ عن سبيل الله من العناوين القصدية بمعنى أنّه لابدّ للفاعل - حتّى يصدق عليه أنّه صادٌّ عن سبيل الله - أن يكون قاصداً لذلك ملتفتاً إليه متعمّداً راغباً في أن لا يحجّ هذا النفر من الحجيج فيحول دون إقلاع الطائرة، أو لا يعطي تأشيرة الدخول، وهكذا، فبناءً على أخذ القصدية يصبح هذا الفعل المباح - وهو الحيلولة دون إقلاع الطائرة - حراماً مع هذا القصد لا بدونه.
ولا يخفى أنّ المثال الذي مثّلناه غير مأخوذ فيه وجود أيّ عقد بين شركة الطيران وبين الركّاب، وإلاّ لحقت الأمر أحكام إلزاميّة أخرى تتّصل بباب العقود والمعاملات.
الحالة الثالثة: أن يكون الفعل الذي قام به الطرف الأوّل أداءً لواجب أو تركاً لحرام، ومن الواضح أنّ هذا الفعل في حدّ نفسه إطاعةٌ للمولى سبحانه وتعالى، لكن مع ذلك قد يترك تأثيراً على أفعال الآخرين وسلوكهم، فتارةً يكون إيجابيّاً وأُخرى سلبيّاً وهكذا..