61
نظرية الترابط بين الأفعال في ضوء علم أُصول الفقه الإسلامي
حيدرحبّ الله
استعراض لنماذج في باب الحجّ
تمهيد
ثمّة أهمّية كبيرة لدراسة العلاقة بين إنجاز الواجبات وإنجاز المستحبّات، وكذلك بين ترك المكروهات وترك المحرّمات و.. فقد يفضي فعل نقوم به يكون واجباً إلى ترك مستحبّ، وقد يفضي فعل المستحبّ إلى تركنا الواجب، ليس هذا فحسب، بل قد يؤدّي فعلنا للمستحبّ إلى ترك الآخرين للواجب، أو العكس، وهكذا في باب المحرّمات والمكروهات، ممّا يستدعي دراسة أوجه العلاقة والارتباط بين هذه الإنجازات المتنوّعة.
وتتخطّى هذه القضية البُعد الفردي في الأمر إلى بُعد اجتماعي، كما سوف نركّز على بعض الأمثلة في الصفحات القادمة إن شاء الله تعالى؛ فمثلاً قد يؤدّي تقديم الآلاف ممّن أنجزوا سابقاً حجّة الإسلام الواجبة.. تقديمهم طلبات للحجّ، إلى الحيلولة دون حصول الآلاف ممّن وجبت عليهم حجّة الإسلام، نتيجة نظام التحديد والقرعة المستخدَمَين في الجملة في أيّامنا هذه على الحجيج، طبقاً للقوانين التي سنّتها وأجرتها المملكة العربية السعودية في العقدين الأخيرين، فهل يوجب هذا الأمر تحريم تقديم الطلبات للحجّ المستحبّ لأنّه يحول دون أداء الآخرين للواجب الشرعي فيكون صدّاً عن سبيل الله أم أنّ الموقف يندرج ضمن معايير أُخرى؟!
وكفى هذه المسألة الكثيرة الابتلاء لبيان أهمّية هذا الموضوع وضرورة دراسته.
ويجب أن نشير في بداية هذه المقالة المتواضعة إلى أنّ بحثنا هنا سوف يدور حول ما يمكن أن تقدِّمه لنا القواعد والأصول والمعايير العامّة في الشريعة الإسلاميّة والفقه الإسلامي، أمّا التطبيقات ووجود أدلّة خاصّة في هذا المورد هنا أو هناك يمكنها أن تغيّر مسار القاعدة أو القواعد، وكذلك تحديد هل هذه القاعدة أو تلك تجري في هذا المورد أو ذاك، فهذا أمرٌ يرجع إلى الأبحاث الفقهيّة الفرعيّة التي قد تختلف في معطياتها ونتائجها.
كما تجدر الإشارة هنا إلى عدم إفراد الأصوليّين والفقهاء بحثاً مستقلاًّ لدراسة طبيعة علاقة الأفعال ببعضها بعضاً؛ إلاّ أنّ أغلب هذه الصور معلومٌ قواعديّاً في كلماتهم، يمكن التعرّف عليه بتحليل نظرياتهم في أُصول الفقه وفي الفقه أيضاً.
الهيكلية العامّة لافتراضات الدراسة
ويمكن تصوّر أصل الموضوع في صورتين اثنتين جامعتين:
الصورة الأُولى: أن يكون فعل الطرف الأوّل للتكليف الأوّل مؤدّياً إلى تركه التكليف الثاني، فالفاعل والتارك في هذه الصورة شخصٌ واحد، لا اثنين، كما لو أدّى فعله لواجب شرعي مثل الصلاة إلى ترك مستحبّ وهكذا..
الصورة الثانية: أن يكون فعل الطرف الأوّل للتكليف الأوّل مؤدّياً إلى ترك طرف آخر للتكليف الثاني، سواء كان هذا الترك عمدياً أو قسريّاً أو.. فالفاعل والتارك هنا اثنان كما صار واضحاً.
ويجب أن نشير إلى أنّ قصدنا بكلمة «ترك» و «فعل» في الصورتين، يشمل صورة ترك واجب أو مستحبّ أو فعل حرام أو مكروه، وبعبارة جامعة: المراد بالترك مطلق التخلّف عن مفاد تكليف شرعي، فقد يكون في فعل الطرف الأوّل لحرامٍ مّا ما يؤدّي إلى فعل الطرف الثاني لحرام، وكذا الواجب، وبهذا يتبيّن أنّ صور هذه المسألة كثيرة جدّاً، كما سوف نلاحظ بعضه.
1- الترابط بين أفعال المكلّف نفسه
والبحث في الصورة الأُولى فيه عدّة حالات:
الحالة الأُولى: أن يؤدّي فعل الفاعل إلى تحقيق موضوع حكم آخر في حقّ نفسه، كأن ينذر شكراً لله أن يوفّر لنفسه مبلغاً ماليّاً لصرفه في وجوه الخير والطاعة، ثمّ يفي بهذا النذر، فتتحقّق الاستطاعة منه فيجب عليه الحجّ، فهنا كان فعل الواجب محقّقاً لموضوع واجب آخر. وكذلك الحال في جمعه المال بوصف ذلك فعلاً مباحاً فيحصل بذلك سبب الاستطاعة، فيكون من باب إنجاز المباح المفضي إلى تحقيق موضوع الواجب.
وصور هذه الحالة كثيرة جدّاً والحكم فيها واضح؛ فإنّ فعليّة الحكم الثاني منوطة بتحقّق موضوعه، بصرف النظر عن مبرّرات هذا التحقّق، أي سواء جاء هذا التحقّق من إطاعة واجب آخر أو غيره. نعم، لو أخذ في تحقّق موضوع الحكم الثاني قيد أن لا يكون ذلك عبر طريق خاصّ، كالحرام مثلاً، لم يتحقّق موضوع التكليف الثاني حينئذ، لانعدام أحد قيوده وأركانه.
وفي صور الحالة الأُولى هذه، يظلّ التكليف الأوّل على حاله، فإنّ إفضاء امتثاله إلى تحقّق موضوع تكليف آخر لا يغيّر من حكمه شيئاً؛ وذلك أنّه لن يصير بذلك مقدّمةً لواجب ولا لحرام، لفرض أنّه صار بامتثاله مقدّمةً وجوبيّةً لا وجوديّة، فلا يشمله قانون التلازم بين المقدّمة وذيها، لا في طرف الحرمة ولا في طرف الوجوب.