62
الحالة الثانية: أن يؤدّي فعل الفاعل إلى عدم انعقاد موضوع حكم آخر، بمعنى الحيلولة دون انعقاده، فقد كان لولا الفعل الأوّل في طريق الانعقاد لكنّ حدوث هذا الفعل حال دون انعقاده لسببٍ أو لآخر، كما لو قدّم مقداراً من المال لأحد أقربائه أو أصدقائه على نحو الهديّة المستحبّة التي تليق بشأنه، فأدّى ذلك إلى حلول الحول عليه وهو لا يملك فاضل المؤونة، الأمر الذي يلغي - أي يحول دون تحقّق - موضوع وجوب الخمس في أرباح المكاسب عليه، أو قدّم هذه الهدية قبل حلول أشهر الحج، وبنينا على أنّ الاستطاعة يُشرط فيها أن تكون متحقّقةً ولو في أوّل هذه الأشهر، فإنّ فعله لمستحبّ الصدقة أو الهدية أو الانفاق على العيال على نحو التوسعة، قبل مجيء أشهر الحج حال دون انعقاد الاستطاعة بالنسبة إليه.
وفي هذه الحالة لا إشكال في بقاء فعله الأوّل على حكمه الطبيعي ولا يغيّر من حكمه صيرورته سبباً للحيلولة دون انعقاد موضوع الحكم الآخر؛ وذلك أنّه لا يجب على المكلّفين أن يحقّقوا موضوعات الأحكام؛ لأنّ الحكم لا يبعث نحو موضوعه كما تقرّر، وهذا معناه أنّه لا يوجد خطاب متّجه نحو المكلّف يحمّله مسؤوليّة تحقيق الموضوع حتّى يعارض أو يزاحم الخطاب الموجّه في التكليف الأوّل الذي حال دون تحقّق موضوع التكليف الثاني، فيظلّ التكليف الأوّل على حاله حينئذٍ بلا معارض ولا مزاحم، كما لا يتحقّق التكليف الثاني ممّا يرفع مسؤوليّته عن كاهل المكلّف على نحو الدفع؛ لأنّ المفروض أنّ موضوعه لم ينعقد بسبب حيلولة امتثال التكليف الأوّل دون تحقّقه.
نعم، إذا كان موضوع الحكم الثاني ممّا تعلّق به - لا بوصفه موضوعاً - حكمٌ شرعي خاصّ، كما لو نذر أن يجمع المال للحجّ، عارض هذا الحكم الخاصّ مفاد الحكم الأوّل أو زاحمه، فدليل استحباب الهدية يطالب المكلّف بالإهداء، فيما دليل وجوب الوفاء بالنذر يُطالبه بالحرص على المال كي يتسنّى له تحقيق مقوّمات السفر هذا العام، فيقع التزاحم، ويقدَّم الأهمّ، وفي مثالنا هو الواجب لتقدّمه على المستحبّ، وتجري قواعد باب التزاحم حينئذ.
الحالة الثالثة: أن يؤدّي فعل الفاعل إلى إعدام موضوع الحكم الثاني، بمعنى أن يكون موضوع الحكم الثاني متحقّقاً، لا يوجد ما يحول دون أصل انعقاده، إلاّ أنّ بقاء تحقّقه منوط بجملة عناصر موضوعيّة، فالإقدام على الفعل الأوّل وفاءً للتكليف الأوّل سوف يؤدّي إلى انعدام موضوع التكليف الثاني، ومثال ذلك أن تتحقّق الاستطاعة لكنّه يقوم بالتصدّق المستحبّ على الفقراء قبل حركة القوافل ممّا يُعدم قدرته على السفر، أو يكون عنده الماء ويدخل وقت الصلاة فيريق الماء ويُعدم موضوع التكليف بالوضوء، ممّا يجعله يُعجّز نفسه عنه.
ومن هذه المسألة ما يسمّى في أُصول الفقه بالتعجيز، إلاّ أنّ صورة بحثنا لا تختصّ بحالة العجز، كما في مثال الوضوء المتقدّم، وإنّما تشمل حالة انعدام الموضوع للحكم الثاني مع قدرة المكلّف على الإتيان بالمتعلّق، كما لو فرضنا قدرته على الذهاب إلى الحجّ ماشياً متسكّعاً لا زاد ولا راحلة معه، فهنا لا يوجد تعجيز عن امتثال متعلّق التكليف، وإنّما انعدام الاستطاعة، طبقاً لاعتبارها الزادَ والراحلة.
وفي هذه الحالة تارةً يفرض الفعل الأوّل الموجب لانعدام الموضوع مباحاً، واُخرى يفرض تعلّق حكم شرعي به من الأحكام الأربعة الأُخرى، وفي المقابل تارة نفرض موضوع الحكم الثاني قد أخذ في تنجيزه التكليف الثاني البُعدُ الحدوثي فيه، وأُخرى يفرض ضرورة البُعدين الحدوثي والبقائي.
أ - فعلى تقدير كونه مباحاً بالإباحة بالمعنى الأخصّ، فإن أخذ تنجيز الموضوع بوجوده الحدوثي فقط، بمعنى أن يكون حدوث الموضوع - ولو انعدم بعد ذلك - كافياً في التنجيز، ظلّ الحكم الثاني على حاله، لفرض تحقّق مبرّر تنجّزه وفعليّته وهو البُعد الحدوثي لموضوعه، إلاّ أنّ الكلام في الفعل الأوّل فهل يتغيّر حكمه من الإباحة بعد لحاظ أدائه إلى ما أدّى إليه؟
والجواب بالعدم، إلاّ إذا أوقع المكلّف في أمر لا يجوز إيقاعه فيه، فيصبح حراماً على تقدير القول بحرمة مقدّمة الحرام وهكذا...
ب - وأمّا على تقدير كونه مباحاً بالإباحة بالمعنى الأخصّ، لكن أخذ تنجيز الموضوع بوجوده الحدوثي والبقائي معاً، فهنا يسقط التكليف الثاني لفرض انعدام موضوعه بانعدامه في مرحلة البقاء، إذا لم يكن قد حان زمن التكليف الثاني، وإلاّ فإنّ هذا التعجيز وإعدام الموضوع يصدق عليه عنوان التخلّف عن أداء الواجب؛ فالمفروض أنّ الواجب قد صار فعليّاً وأنّه قد تحقّق وقته وتوجّه خطابه التنجيزي إلى العبد، وهو لم يمتثل، وبدلاً من أن يطيع أعدم الموضوع، فهنا حتّى لو كان الخطاب لا يتوجّه إليه بعد ذلك لانعدام الموضوع، إلاّ أنّ العقاب على مخالفة الحكم يجري في حقّه على تقدير التنجيز، وهذا معنى القاعدة التي أصّلها الأصوليّون، والتي تقول: إنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وإنّما ينافيه خطاباً، فهذا العبد إذا أمكنه الإتيان بالفعل الثاني من بعد سقوط موضوعه، فلا دليلُ يلزمه بهذا الإتيان، لفرض انعدام فعليّة الحكم حينئذ، إلا على بعض النظريات الأصوليّة التي تميّز بين الفعليّة والفاعلية في المقام، كما يذكره السيد محمد باقر الصدر 1.
ومعنى ذلك انقلاب الإباحة في الفعل الأوّل إلى حرمة، لتعنونه بعنوان المقدّمة للتخلّف عن الواجب الآخر الذي تحقّق موضوعه حسب الفرض، فيكون هذا العنوان الثانوي مقدّماً على العنوان الأوّلي الذي كان يحكم بالإباحة في هذا الفعل.
هذا على تقدير كون التكليف الثاني إلزاميّاً، وإلاّ فلا حرمة كما هو واضح.
ج - أمّا إذا كان الفعل الأوّل المفضي إلى انعدام موضوع التكليف الثاني محكوماً بأحد الأحكام الأربعة، فإن أخذ البُعد الحدوثي والبقائي فلا محذور وترتّبت الآثار التي تحدّثنا عنها سابقاً، وظلّ الحكم الأوّل على حاله، أمّا لو أخذ البُعد الحدوثي فقط، ترتّب ما تقدّم إذا كان الحكم الأوّل هنا غير إلزامي لتقدّم الثاني بملاك الأهمّية عليه إذا كان إلزاميّاً، وأمّا إذا كان إلزاميّاً أو لم يكن الثاني إلزاميّاً أيضاً، وتنجّز التكليف الثاني ودخل وقته، جرت قاعدة التزاحم بين التكليفين، لأنّ حفظ أحدهما سوف يلغي الآخر، فيُقدَّم الأهمّ منهما عند الشارع، ويعمل به، لفرض عدم إمكان امتثالهما معاً. نعم، إذا كان أحدهما في فسحة من الوقت وأمكن إجراء الثاني في هذه اللحظة ولو مع عدم القدرة على الأوّل فيها، ثمّ تجدّدت الاستطاعة للذي فات، وذلك ضمن الوقت، فهنا يمكن الجمع بينهما بلا أيّ محذور حينئذ.