59أصل البراءة غير ناوٍ للاجتناب ولا مجتنباً عن بعض ما يشك في وجوب الاجتناب عنه وفرض عدم إطلاق نافٍ لوجوب الإمساك عمّا عدا الأمور القطعيّة فإنّه لا يحرز كون أكله أثناء صومه ذاك إفطاراً موجباً للكفارة وقد ذكر هذا الإشكال صاحب الجواهر قدس سره في بعض تطبيقاته في الحج ويمكن الإجابة عنه بوجوه بعضها راجع إلى الكبرى وبعضها صغروي.
الوجه الأول: إنّ هذا الإشكال بعد فرض اعتبار الاستصحاب مبني على حجيته في الشبهات في الأحكام الكلية الإلهية وهو واضح. فمن لا يرى اعتبار الاستصحاب في ذلك لا يمكنه الالتزام به.
الوجه الثاني: ما يظهر من كلمات سيدنا الأستاذ في الشبهات المفهومية، من أن الآثار إذا كانت مترتبة على العناوين، فمع الشك في بقائها لا يمكن الحكم باستمرار الآثار على أساس الاستصحاب، لرجوعه إلى الشبهة الموضوعية لدليل الاستصحاب. توضيح ذلك: أنّ المحكوم بتروك الإحرام هو المحرم، فإذا شك في استمرار الإحرام كان الحكم باستمرار تلك الأحكام من الشبهة المصداقية لدليل الاستصحاب، لعدم العلم بتحقق الإحرام، وهذا نظير الشك في وجوب الإمساك بعد استتار القرص وقبل ذهاب الحمرة، حيث أفاد أن وجوب الإمساك مع الشك في بقاء النهار من الشبهة المصداقية لدليل الاستصحاب، إلا أن يفرق بين المقامين بالفرق حيث إن أحكام الإحرام وإن كانت متقوّمة بالإحرام المشكوك بقاؤه، فلا يجري فيها الاستصحاب ولكن الإحرام بنفسه حكم شرعي قابل للتعبد، فيجري فيه الاستصحاب.
بخلاف مثل النهار حيث إنّه أمر وضعي عرفي ولا معنى للاستصحاب فيه إلاّ باعتبار الأكثر المترتب عليه.
هذا، مع أن في المنع من جريان استصحاب حكم النهار كوجوب الإمساك إشكالاً لمنع تقوّم الحكم بموضوعه الشرعي في دليل الاستصحاب بل العبرة في الاستصحاب بالموضوع العرفي لا ما أخذ في النص والدليل الشرعي كما قرر في محلّه.
الوجه الثالث: المنع من جريان مثل استصحاب الإحرام ولا أحكامه بعد الإتيان بالنسك ولو مبنياً على أصل البراءة في أجزائها المشكوكة؛ والسرّ في ذلك هو إطلاق ما دلّ على أن الحاج والمعتمر يتحلل بالطواف والسعي والتقصير أو بالرمي والذبح والحلق أو بها وبالطواف والسعي بعدها؛ فإن غاية ما يعلم بخروجه عن مثل هذه الأدلة هو الإتيان بها على الوجه الفاسد بمعنى ما لا يجوز الاجتزاء به لتنجّز التكليف، وأمّا بعد الإتيان بها على وجه يجوز الاكتفاء بها في مقام الامتثال وإن لم يحكم بصحّتها إلا على وجه الأصل المثبت غير المعتبر، فلا قصور في هذه الإطلاقات عن شموله.
نعم، في موارد الشبهة المفهومية كالشك في صدق الطواف بالبيت أو السعي بين الشعيرتين وما شاكل ذلك ربما يشكل الإطلاق. ويمكن ردّه بقوة احتمال كون ما ذكر من المفاهيم في النصوص كالطواف والسعي تعبيراً عمّا هو وظيفة المكلّف في مقام العمل ولو على أساس الأصول العملية التي منها أصالة البراءة.
وقد فصّلنا الكلام فيما يتعلّق بهذا الأمر ضمن بعض النقاط التي تعرّضنا لها في بحث حكم الشبهات المفهومية وقد نشر في عدد سابق من مجلّة الميقات كما أشرنا إليه فراجعه إن شئت.
المسألة التاسعة:
إذا قلنا بوجوب السعي في خط مستقيم بين الشعيرتين ولم يمكن ذلك بسبب بناء المسعى من قبل الحكومة على وجه لا يمكن للحاج العمل بوظيفته حسب تشخيصه ففي سقوط وجوب الحج والعمرة بسبب العجز عن جزئهما بل ركنهما أو تبدل الوظيفة في السعي بالميسور منه حيث يمكن الإتيان ببعض الأشواط في المحل المقرر وذلك بدليل قاعدة الميسور.
أو عدم سقوط وجوب الفرضين وإنما يسقط وجوب السعي لكونه سنّة واجبة، والسنة لا تنقض الفريضة حسبما دلت عليه معتبرة زرارة المتضمنة لقاعدة «لا تعاد الصلاة إلا من خمس» وقد ذكرت قاعدة عدم انتقاض الفريضة بالسنة ككبرى لتلك القاعدة في ذيل الخبر. أو وجوب السعي في مكان قريب من المسعى لقاعدة الميسور إحتمالات؛ مقتضى القاعدة لولا الدليل على خلافها هو الأوّل.
والإحتمال الثاني لا دليل عليه بناءً على المعروف في مدرك القاعدة.
وأمّا الإحتمال الثالث فإن مقتضى تلك القاعدة هو أن الإخلال بالفريضة متى كان بسبب الإخلال بالسنّة لا بأس به ولا دلالة فيها على صورة ثبوت الفريضة ووجوبها. نعم، في الصلاة حيث لا تسقط بحال فلا يكون الإخلال بها بالسنن فيها بسبب الاضطرار وغيره إخلالاً مفسداً للصلاة؛ وللكلام فيما يتعلق بذلك ذيل طويل محوّل إلى غير المقام.
وقد أفاد بعض السادة المحققين 1 أن ما دل على توسعة مواقف عرفات ومشعر ومنى بضيقها وكذا ملاحظة غير تلك الأدلة يفيد القطع بعدم سقوط وجوب الحج بتعذر السعي.
المسألة العاشرة:
قال الكردي: جاء في تاريخ الغازي ما نصّه: وذكر المحب الطبري أن العقد الذي بالمروة جعل علماً لحد المروة؛ ثم قال: فينبغي للساعي أن يمر تحته ويرقى على البناء المرسوخ. انتهى. إلى أن قال الغازي: لم نقف على من بنى العقد الذي بالصفا والعقد الذي بالمروة... وسبب بناء العقدين بعد عهد أبي جعفر المنصور هو معرفة حدّ الصفا وحدّ المروة فلا يتكلّف الساعي الرقى لما بعدهما من الدرج. والظاهر - والله تعالى أعلم - أن العقدين