56
أقول: يمكن الإيراد على المحقّق الإصفهاني - نقضاً - بأنّ لازم كلامه تعيّن الاحتياط في موارد الأقلّ والأكثر الارتباطي دائماً؛ والوجه في ذلك أنّه ما من عمل يتردّد الواجب منه بين الأقلّ والأكثر إلاّ ويشكّ في تحقّق الغرض المقوّم لوجوده بمجرّد فعل الأقلّ؛ فإنّ الواجبات وإن تعلّق الوجوب فيها بفعل المكلّف ولكن المطلوب إنّما هو الفعل المحقّق للغرض بعدما كانت الأحكام تابعة للمصالح في متعلّقاتها والغايات المقصودة من الأمر بالمتعلّقات وإن كانت تلك الغايات لصالح المكلّفين ولا تعود بالنفع على الله تعالى؛ فالمأمور به من الصلاة هو الصلاة المحقّقة للغرض من الأمر بها، غاية الأمر أنّ الغرض قد يكون معلوماً تفصيلاً وفيما لا يعلم كذلك فهو معلوم على الإجمال لاستحالة الأمر بما لا غاية للأمر به.
فكما أنّه لو أمر الله بالصلاة الناهية عن الفحشاء وشكّ في منطبقه - حسب تعبير الإصفهاني - يجب الاحتياط؛ كذلك لو أمر بالصلاة ونعلم أنّ له غرضاً من انتهاء المكلّف عن الفحشاء أو غيره على الإجمال فما لم يحرز تحقّق الغرض بالأقلّ يتعيّن الاحتياط لأنّ العلم الإجمالي كالتفصيلي منجّز.
ويمكن الدفاع عن الإصفهاني بأنّ مجرّد العلم باشتمال المأمور به على الغرض لا يجعل المأمور به أمراً بيّناً في العهدة ما لم يكن الغرض أمراً بيّناً، بل هذا العلم عين الإجمال، والمعلوم بالإجمال إنّما يتنجّز بمقدار العلم لا بأكثر فيما إذا انحلّ - ولو حكماً - إلى متيقّن وإلى زيادة عنه مشكوكة؛ والعلم الإجمالي بالغرض لا يحتّم على المكلّف ما كان مجملاً.
وربما كان الغرض على تقدير بيانه منطبقاً على تقدير فعل الأقلّ؛ وعلى تقدير عدم انطباقه ربّما كان من الأقلّ والأكثر الاستقلاليين وإن فرض وجوب الأكثر، إذ ربّما كان للغرض مراتب.
وكيف كان فيرد على المحقّق الإصفهاني أنّه لا قصور في أدلّة البراءة النقليّة - على الأقلّ - لو فرض قصور البراءة العقليّة عن شمول ما فرضه؛ فإنّ العناوين المتّحدة مع أفعال المكلّفين هي عبرة إليها وواسطة في التعبير عنها، فالصلاة وإن كانت موضوعة لمفهوم ولكنّها موضوعة لواقع ذاك المفهوم، وقد اخذ المفهوم مرآة لذاك الواقع، فما هو بالحمل الشائع وفي الخارج مصداق الصلاة هو الذي وضع له لفظة الصلاة حقيقة؛ وإلاّ فالصورة الذهنيّة من الصلاة التي هي المفهوم ليست صلاة وإنّما هي كيف نفساني عارض على النفس وليس هو ممّا وضع له هذا اللفظ، بل له لفظ آخر كصورة ذهنيّة ونحوها.
إذن، لمّا كانت الألفاظ موضوعة لواقع المعاني ووجوداتها، بل الوجودات هي المعاني، وعناوينها طريق إليها فحيث كان العنوان المأمور به متّحداً مع فعل المكلّف ولم يكن فعله مقدّمة لتحقّقه كان الأمر متعلّقاً في الحقيقة بالفعل الذي يباشره المكلّف لا بعنوانه.
لا أقول: إنّ الأمر متعلّق بالفعل المتحقّق خارجاً ليُقال: إنّ ظرف تحقّق الفعل ظرف سقوط الأمر فكيف يكون مقوّماً للأمر؟!
بل مقصودي أنّ متعلّق الأمر هو العنوان الخاصّ لفعل المكلّف في قبال العنوان الآخر له.
مثلاً المأمور به في الحقيقة في مثل الأمر بالصلاة هو عنوان التكبير والركوع والسجود والقراءة والتسليم التي هي فعل المكلّف وإن تعلّق الأمر بعنوان الصلاة؛ فإنّ الصلاة ليست شيئاً في قِبال هذه الأفعال بل هي متّحدة معها؛ بخلافه في التوليديّات حيث إنّ فعل المكلّف سبب وعلّة لها لا متّحداً معها؛ ويكفي لصحّة جعل التوليديّات على عهدة المكلّف تمكّنه من الأسباب؛ والقدرة عليها قدرة على المسبّبات.
إذن فلفظ الصلاة تعبير عن الركوع والسجود وسائر الأجزاء، ولا محالة يكون الإجمال في معنى الصلاة حقيقته الإجمال فيما هو المطلوب من الأجزاء المقوّمة لها لا أنّه يستلزمه بل هو عينه.
والإجمال فيما يحقّق العنوان عين الإجمال في العنوان فلا يعقل كون العنوان معلوماً ومنطبقه مجملاً.
وظنّي أنّ الذي حدا بالإصفهاني إلى الحكم بالاحتياط على تقدير كون العنوان معلوماً مع تردّد منطبقه هو قياس المقام على التوليديّات، فكما أنّ الأمر التوليدي إذا كان معلوماً وكان الشكّ في سببه لا يكون الإجمال في السبب مانعاً من لزوم الاحتياط بعد كون المسبّب المطلوب أمراً معلوماً، فكذلك في موارد العنوان والمعنون.
وهذا غفلة عن الفرق بين الموردين؛ فإنّ الإجمال في السبب لا يوجب الإجمال فيما هو متعلّق التكليف.
وهذا بخلاف المقام حيث إنّ الإجمال في المعنون وما يباشره المكلّف يكون عين الإجمال في العنوان - لا ناشئاً منه - بعد اتّحاد العنوان والمعنون في الوجود ومجرّد الاختلاف بينهما في اللفظ والعبارة.
وربّما كان المنشأ لما ذهب إليه الإصفهاني غفلة عن أمر آخر هو ضابط الأمر التوليدي كما ربّما يلوح من بعض عبائره؛ وذلك حيث إنّه قد يتخيّل أنّ مثل الأمر بإبراء المريض وعلاجه أو إحراق الشيء أو طبخه من الاُمور التوليديّة والمسبّبات، مع أنّ الأمر ليس كذلك.
والوجه في ذلك أنّه: لا فرق بين الأمر بالصلاة والصوم وبين الأمر بالطبخ أو الإبراء في كون متعلّق التكليف فعل المكلّف؛ وكون الفعل في أحدهما إمساكاً أو ركوعاً أو سجوداً وفي الآخر جعل القدر على النار وغيره من الأسباب والشرائط المقوّمة للطبخ الذي هو فعل المكلّف لا يكون فارقاً فيما هو المهمّ؛ وأيضاً إسقاء الدواء ونحوه من الاُمور هي بعينها العلاج والمعالجة والإبراء، نعم هي غير سلامة المريض وبرئه، كما أنّ إيقاد النار وجعل القدر عليه غير نضج الغذاء وصيرورته مطبوخاً قابلاً للأكل فعلاً.