54وتوسعة المسعى بإدخال بعض الأماكن فيه إنّما هو إرجاع للحقّ إلى أهله؛ وليس من ضمّ غير الحقّ إليه؛ ولذا قد ورد في النصّ المعتبر أنّ الناس ضيّقوا المسعى كما سبق، وكذا وقع التصريح به في الآثار والسير؛ وإن تقدّم منّا التشكيك في دلالة الخبر والله العالم.
ونحو هذا النصّ ما تضمّن أنّ الناس وردوا على المسجد لا أنّه ورد عليهم؛ تعليلاً لجواز هدم البيوت المبنيّة حوالي الكعبة والمسجد الحرام وضمّ أراضيها إلى المسجد. والذي يؤكده ما تضمن من النصوص التي تقدّمت من أن إبراهيم(ع) حدّ المسجد الحرام بما بين الصفا والمروة - يعني المسعى - فكانت البيوت المبنيّة حول الكعبة داخلة في المسجد ومبنيّة في أرضه. واحتمال كون الشعيرتين بحسب وجودهما الفعلي زيد عليهما من غيرهما بأن زيد من أبي قبيس إلى الصفا ومن قعيقعان إلى المروة.
يردّه أن الصفا مثلاً بحسب وجوده الفعلي له وحدة عرفيّة يفصله عن غيره ولا يعقل كون بعضه من غير صفا بعد اعتبار أن يكون صفا ممتازاً بصورة طبيعية عن أصل جبل أبي قبيس لا بتقدير تعبدي وقد ذكروا أن صفا أنف من جبل أبي قبيس كما سمعت حكايته في الجواهر أيضاً.
نعم لو كان المعنون لصفا - بحسب وجوده الحالي - مؤلفاً من ربوات عدّة بعضها بجانب بعض احتمل كون بعضها خارجاً من العنوان؛ وليس كذلك.
كما أن احتمال كون الصفا بوجوده الفعلي مبايناً لما كان كذلك واقعاً فهو وهم لا أساس له؛ فإنّه أي داع للمسلمين على تحويل الصفا إلى إمكان مباين لواقعه؛ ولو وقع لثبت في الأثر والنصوص وعلم والمفروض عدمه.
هذا مع أن أصالة عدم النقل والثبات في اللغة ونحوها حاكمة لو فرض طروّ الشك في مثل ذلك.
ثمّ إني بعد ما قررت الإشكال في توسيع المسجد الحرام بما يشمل قسماً من المسعى بمعنى ما يصح السعي فيه عثرت على كلام لبعض فقهاء أهل السنة في هذا المجال متضمناً أيضاً لحكاية تغيير المسعى.
قال القطب الحنفي في المحكي عنه بعد حكاية تغيير المسعى عن أهل السير:
وهاهنا إشكال ما رأيت مَن تعرّض له وهو: أنّ السعي بين الصفا والمروة من الاُمور التعبّدية التي أوجبها الله تعالى علينا ولا يجوز العدول عنه؛ ولا تؤدّى هذه العبادة إلاّ في ذلك المكان المخصوص الذي سعى فيه وعلى ما ذكر هؤلاء الثقات إدخال ذلك القدر من المسعى في الحرم الشريف وتحويل المسعى إلى دار محمّد بن عبّاد - كما تقدّم - والمكان الذي يسعى فيه الآن لا يتحقّق إنّه بعض المسعى الذي سعى فيه رسول الله(ص) أو غيرهُ، فكيف يصحّ السعي فيه وقد حوّل عن محلّه كما ذكره هؤلاء الثقات؟
ولعلّ الجواب عن ذلك: أنّ المسعى في عهد رسول الله(ص) كان عريضاً وبنيت تلك الدور بعد رسول الله(ص) في عرض المسعى القديم فهدمها المهدي وأدخل بعضها في المسجد الحرام وترك بعضها للسعي فيه؛ ولم يحوّل تحويلاً كلّياً؛ وإلاّ لأنكر ذلك علماء الدِّين من الأئمّة المجتهدين رضي الله عنهم أجمعين، مع توفّرهم إذ ذاك، فكان موجوداً في ذلك الوقت الإمامان أبو يوسف ومحمّد بن الحسن والإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة(رضي الله عنه)، وقد أقرّوا ذلك وسكتوا؛ وكذا من بعدهم مثل الإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل وبقيّة المجتهدين، فكان اجتماعهم على صحّة السعي في هذا المحلّ الموجود الآن من غير نكير نُقل عنهم.
وبقي إشكال آخر في جواز إدخال شيء من المسعى في المسجد وكيف يصير ذلك مسجداً؟ وكيف حال الاعتكاف فيه؟
وحلّه: بأن يجعل حكم المسعى حكم الطريق العام؛ وقد قال علماؤنا بجواز إدخال الطريق في المسجد إذا لم يضرّ بأصحاب الطريق فيصير مسجداً ويصحّ الاعتكاف فيه حيث لا يضرّ بمن يسعى. فاعلم ذلك وهذا ممّا تفرّدت ببيانه. انتهى ما ذكره القطب 1.
أقول: إنّ الذي ورد في بعض السير من تغيير المسعى وتحويله من محلّه الأصلي إلى الموضع الجديد وأنّ هذا المسعى الفعلي هو مستجدّ، أو زيد فيه.
قد يكون المراد به أنّ الموضع الذي كان يقع فيه السعي خارجاً - لا ما يصحّ فيه السعي - قد حرّف، فالمقدار الذي كان الناس يسعون فيه ادخل في المسجد وقد جعل محلّ السعي الموضع الجديد بعدما لم يكن هذا الموضع مسعى عملاً لوجود موانع فيه من بنايات ودور ومجرى السيل وغير ذلك.
وبالجملة: عدم كون الموضع الجديد المسعى في الأعصار القديمة شيء، وعدم صحّة السعي فيه شيءٌ آخر؛ والمنظور في الكلمات قد يكون هو الأوّل، وإلاّ فلا مجال لصحّة غيره بعدما ذكرنا من أنّ العبرة في صحّة السعي بما يصدق عليه السعي بين الشعيرتين، وهما بحمد الله قائمتان حتّى الساعة وإلى آخر الدُّنيا إن شاء الله تعالى.
فإدخال زيادة في المسعى نظير إحداث زيادة في المطاف بتوسيع المسجد بعد هدم البيوت المحيطة به ممّا لا ينافي جواز الطواف في الزيادات وإن لم يكن رسول الله(ص) طاف فيها.
وأمّا ما أفاده القائل من تجويز الأخذ من مشعر المسعى فقد تكلّمنا حوله إجمالاً آنفاً.