51ويخطر بذهني احتمال آخر وهو كون المراد بتضييق المسعى تضييق موضع الهرولة والظاهر أن المراد تضييقه في الطول لا في العرض حيث ذكر عليه السلام المنارة الأولى أنّها طرف المسعى وأمّا المنارة الأخرى فلم يذكر(ع) إنّه الطرف الآخر بل قال(ع): إن المسعى كان أوسع سابقاً. والمعنى أن مقدار الهرولة كان أطول وأهل السنة جعلوه أقصر بحسب نصب العلائم.
ويؤكد هذا الاحتمال أن الإمام(ع) وصف موضع الهرولة والسعي ببعض الأوصاف الأخر كبعض الدور والأزقّة كما في معتبرة سماعة قال: سألته عن السعي بين الصفا والمروة قال: إذا انتهيت إلى أوّل زقاق عن يمينك بعد ما تجاوز الوادي إلى المروة فإذا انتهيت إليه فاكفف عن السعي وامش مشياً. وإذا جئت من عند المروة فابدء من عند الزقاق الذي وصفت لك فإذا انتهيت إلى الباب الذي من قبل الصفا بعد ما تجاوز الوادي فاكفف عن السعي وامش مشياً. وإنّما السعي على الرجال وليس على النساء سعي 1.
أقول: المراد من السؤال عن السعي هو السؤال عن الهرولة بقرينة الجواب؛ صدراً وذيلاً في مواضع منه، لا السؤال عن أصل مشروعية السعي والمشي بين الصفا والمروة.
وبما ذكرنا من وسعة المسعى وأنّ هناك كانت أبنية وموانع تضيّقه كما هو موجود الآن أيضاً وهي سنة 1428 ه- ق ومنذ سنين فيما رأينا حيث إن بناية المسعى والجدر المحيطة به مانعة من السعي في بعض المواضع التي يجوز السعي فيها بلا ريب، يظهر الإشكال فيما ذكره صاحب الجواهر حيث قال:
حكى جماعة من المؤرِّخين حصول التغيّر في المسعى في أيّام المهدي العبّاسي وأيّام الجراكسة على وجه يقتضي دخول المسعى في المسجد الحرام وأنّ هذا الموجود الآن مسعى مستجدّ. ومن هنا أشكل الحال على بعض الناس باعتبار عدم إجزاء السعي في غير الوادي الذي سعى فيه رسول الله(ص)، كما أنّه أشكل عليه إلحاق أحكام المسجد لما دخل منه فيه، ولكن العمل المستمرّ من سائر الناس في جميع هذه الأعصار يقتضي خلافه، ويمكن أن يكون المسعى عريضاً قد أدخلوا بعضه وأبقوا بعضه كما أشار إليه في الدروس. قال: وروي: إنّ المسعى اختصر 2.
وعن تاريخ القطبي: أمّا المكان الذي يسعى فيه الآن فلا يتحقّق أنّه بعض من المسعى الذي سعى فيه رسول الله(ص) أو غيره، وقد حوّل عن محلّه كما ذكره الثقات 3.
قال الأزرقي الذي كان يعيش في النصف الأوّل من القرن الثالث وقد قيل: إنّه توفّي سنة مائتين وخمسين فهو كان يعيش قبل الغيبة وفي عصر الأئمّة المعصومين(عليهم السلام) ، قال في كتابه في ذكر زيادة المهدي العبّاسي في المسجد الحرام:
أخبرني جدّي أحمد بن محمّد قال: سمعت عبد الرحمن بن القاسم بن عقبة يقول: حجّ المهدي سنة ستّين ومأة وأمر بعمارة المسجد الحرام وأمر أن يُزاد في أعلاه ويشترى ما كان في ذلك الموضع من الدور وخلف تلك الأموال؛ وكان الذي أمر بذلك محمّد بن عبد الرحمن بن هشام الأوقص المخزومي وهو يومئذ قاضي أهل مكّة، قال: فاشترى الأوقص تلك الدور فما كان منها صدقة - يعني وقفاً - عزل ثمنه واشترى هو لأهل الصدقة بثمن دورهم مساكن في فجاج مكّة عوضاً عن صدقاتهم، إلى أن قال: فاشترى جميع ما كان بين المسعى والمسجد من الدور فهدمها ووضع المسجد على ما هو عليه اليوم شارعاً على المسعى - يعني بعدما كان شارعاً على البيوت التي كانت بين المسجد والمسعى - .
إلى أن قال في ذكر الزيادة الاُخرى للمهدي:
قال أبو الوليد: قال جدّي: لمّا بنى المهدي المسجد الحرام وزاد فيه الزيادة الاُولى اتّسع أعلاه وأسفله وشقّه الذي يلي دار الندوة والشامي؛ وضاق شقّه اليماني الذي يلي الوادي والصفا؛ فكانت الكعبة في شقّ المسجد؛ وذلك أنّ الوادي كان داخلاً لاصقاً بالمسجد في بطن المسجد اليوم، قال: وكانت الدور وبيوت الناس من ورائه في موضع الوادي اليوم إنّما كان موضعه دور الناس 4؛ وإنّما يسلك من المسجد إلى الصفا في بطن الوادي ثمّ يسلك في زقاق ضيّق حتّى يخرج إلى الصفا من التفاف البيوت فيما بين الوادي والصفا، وكان المسعى في موضع المسجد الحرام اليوم...
إلى أن قال أبو الوليد: فلمّا حجّ المهدي أمير المؤمنين سنة أربع وستّين ومأة ورأى الكعبة في شقّ من المسجد كره ذلك وأحبّ أن تكون متوسّطة في المسجد الحرام فدعا المهندسين فشاورهم في ذلك...
إلى أن قال: فابتدؤوا عمل ذلك في سنة سبع وستّين ومأة واشتروا الدور وهدموها، فهدموا أكثر دار ابن عبّاد بن جعفر العائذي وجعلوا المسعى والوادي فيها؛ فهدموا ما كان بين الصفا والوادي من الدور ثمّ حرّفوا الوادي في موضع الدور حتّى لقوا به الوادي القديم بباب أجياد الكبير 5.
ونحوه ما حكى في تحصيل المرام، تأليف محمّد بن أحمد المالكي المكّي المعروف بالصبّاغ المتوفّي 1321ه- . ق حاكياً عن تاريخ القطب أعني إعلام الناس، وغيره. وفيه عنه: وكان المسعى في موضع المسجد الحرام اليوم فهدموا أكثر دور محمّد بن عبّاد وجعلوا المسعى والوادي فيها...
وقال في آخره: هذا ملخّص ما ذكره الأزرقي والفاكهي والحافظ نجم الدِّين ابن فهد والقطب الحنفي في إعلام الناس لأهل بلد الله الحرام 6.
وقال الصبّاغ: قال الحافظ نجم الدِّين ابن فهد في حوادث سنة أربع وستّين ومأة وما ملخّصه: فيها هدمت الدور التي اشتُريت لتوسعة المسجد الحرام والزيادة فيه - الزيادة الثانية للمهدي - فهدم أكثر دور محمّد بن عبّاد وجعل المسعى والوادي فيها، وهدموا بين الصفا والوادي من الدور وحرّفوا الوادي في موضع الدور حتّى وصلوا إلى موضع الوادي القديم في أجياد الكبرى 7.