46لزوم كون السلوك من الطريق المعهود لا يريدون به الطريق المستقيم وعلى تقديره فما ذكر في دليله لا يلتزمون بلوازمه في مشابهاته في الفقه وقد صرح بالموافقة على ما ذكرناه بعض مشايخنا دام بقاه وغيره.
وثانياً: لو فرض المنع من صدق السير بين المشعرين مع عدم استقامة خط السير في فرض الاختيار ولكنه لا شك في صدقه مع وجود مانع من المشي على خط مستقيم ولو كان المانع هو الزحام أو الحكومة لمصالح مادام أنّ المبدء والمختم في كل شوط هو الشعيرتان.
ويؤيّد ما ذكرنا ما رواه ابن الوليد الأزرقي عن جدّه عن مسلم بن خالد عن ابن جريج قال: قال عطاء: من طاف بين الصفا والمروة راكباً فليجعل المروة البيضاء في ظهره ويستقبل البيت وليدع الطريق - طريق المروة - وليأخذ من دار عبدالله بن عبدالملك وهي (بين) دار منارة المنقوشة وبين المروة البيضاء في طريق دار طلحة بن داود حتى يجعل المروة في ظهره 1.
والظاهر أن المراد من المروة البيضاء هو حجر أبيض كان منصوباً في جبل صفا علامة على مبدء السير لا المروة المقابلة للصفا.
والذي يتحصل مما بحثناه أن الساعي إذا بدأ بالصفا وختم بالمروة وكان في أثناء سيره خارجاً عن مقدار عرض الشعيرتين بمقدار يسير لميكن به بأس؛ لصدق السعي بين الشعيرتين مضافاً إلى البدء بالصفا والختم بالمروة وبالعكس. نعم ليس الواجب مجرد المشي بادئاً بإحدى الشعيرتين وخاتماً بالأخرى، بل الواجب مضافاً إلى ذلك التواجد في جميع السير بين الشعيرتين ولكن الكلام في مصداق البين وأنّه يتحدد بعرض الشعيرتين أو كونه أوسع؛ نعم لا يصدق التواجد في البين لو خرج عن العرض بمقدار فاحش؛ وأمّا إذا كان الخروج يسيراً ففي عدم الصدق تأمل بل منع، كما صرح بذلك غير واحد من فقهائنا المعاصرين.
ومما يؤكد بل يدلل على صدق الكون فيما بين الشعيرتين استدلال جمع من الفقهاء - كما حكينا - لعدم جواز الخروج عن المسعى بدخول سوق الليل أو المسجد الحرام بأنّه يشترط كون السير في الطريق المعهود، لكونه المتعارف؛ فلو كان السير في الخارج عن العرض المذكور مما لا يصدق معه المشي بين الصفا والمروة، كان هذا الوجه أولى بالاستدلال مما ذكر؛ فإنّه أشبه بالاستدلال بأمر خارج مع وجود الدليل على تقوّم ماهية العمل بالشيء.
ثم إن هذا الذي ذكرناه من جواز السعي في العرض الزائد هو بالغض عن احتمال زيادة عرض صفا والمروة بتعريض الربوتين؛ وبالغض عن احتمال كون عرض الشعيرتين قديماً أوسع مما عليه الآن وقد أزيل بعضه بجعله طريقاً أو غيره؛ ومما يؤكّد عدم تحديد عرض المسعى بقدر عرض الشعيرتين هو أنّ صفا أعرض من المروة بحسب الوضع الموجود حالياً وإطلاق النصوص يقتضي جواز البدء في الصفا من أي نقطة منه؛ ومن جملة مواضعه ما يكون خارجاً عن محاذاة المروة إلا إذا كان الساعي منحرفاً في سيره عن الاستقامة؛ أو يكتفي في المحاذاة بما يجزي في عنوان استقبال القبلة كما أشرنا إليه؛ فلو كان التواجد في العرض الدقيق للشعيرتين شرطاً لكان اللازم التواجد في المقدار المشترك من الصفا والمروة ولاحتاج إلى التنبيه على ذلك في النصوص.
فلو لم يكن الإطلاق اللفظي نافياً لهذا الشرط فلا أقل من الإطلاق المقامي.
ومما يؤكد عدم اعتبار شرط التواجد في مقدار عرض الشعيرتين ما ورد في بعض نصوص أهل السنة؛ فإنّه وإن لم يسند الأمر فيه إلى المعصوم ولكنّه يشهد بكون المفهوم عرفاً من السعي لم يكن أمر يتنافى مع الخروج اليسير عن عرض الشعيرتين.
والخبر المشار إليه ما ذكره الأزرقي عن جدّه عن مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج قال: قال عطاء: من طاف بين الصفا والمروة راكباً فليجعل المروة البيضاء في ظهره ويستقبل البيت وليدع الطريق - طريق المروة - وليأخذ من دار عبدالله بن عبدالملك وهي (بين) دار المنارة المنقوشة وبين المروة البيضاء في طريق دار طلحة بن داود حتى يجعل المروة في ظهره 2.
ويمكن تقريب جواز السعي في حدّ خارج عن عرض الشعيرتين بأن المطلوب هو السعي بين الصفا والمروة وهذا العنوان يصدق متى كان الساعي مستقبلاً إحدى الشعيرتين في سيره وإن كان في عرض أوسع منهما نظير استقبال القبلة؛ فكما أن الجهة تتسع بالبعد، وكلّما زاد البعد زاد عرض الاتجاه، فكذلك في اتجاه الصفا والمروة. فالمتجه إلى المروة إذا كان قريباً منها لا يكون متجهاً إليها إلا إذا كان في عرض خاص؛ وإذا بعد عن المروة كما إذا كان قريباً من الصفا متجهاً نحو المروة فإن عرض الاتجاه يكون أعرض من الفرض السابق. ولا يشترط في الكون بين الصفا والمروة إلا الكون في عرض يصدق معه الاتجاه نحو شعيرة واستدبار الأخرى. وهذا الأمر كما يصدق في مقدار عرض الشعيرتين يصدق فيما يزيد على ذلك في الجملة؛ وأوسع نقطة العرض وسط المسعى.
وممّا يؤكد عدم تحديد العرض بقدر الشعيرتين هو أن المسعى لم يكن مشتملاً على جدار موازٍ للشعيرتين كما هو موجود الآن فلو كان عدم الخروج عن مقدار عرض الشعيرتين شرطاً لنُبّه على ذلك في النصوص ولأمر بالاحتياط في العرض مع اشتباه الموضوع فالإطلاق المقامي للنصوص ناف لهذا الشرط.
ثم إن المعروف بين الفقهاء اشتراط السعي بكونه في الطريق المعهود والمتعارف؛ وقد يقال: إن مقتضاه عدم جواز الانحراف عن الخط المستقيم.
ويردّه أن مقصودهم (قدست أسرارهم) هو الاحتراز عمّا نصوا عليه من الانحراف بمثل استطراق سوق الليل والمسجد الحرام وما شاكل ذلك مما لا يعدّ طريقاً عرفياً للسعي بين الشعيرتين، لا الاحتراز عن الخط المنكسر والتقييد بالخط المستقيم.