37
المسعى قديماً وحديثاً وحدّه في الشريعة
الشيخ محمّد القائني
تقدّم منّا في بعض البحوث - وطبع - بحث عامّ يتعلّق بحكم الشبهات المفهوميّة لما هو موضوع الأحكام أو متعلّقاتها أو قيودها؛ وقد وقع الابتلاء أخيراً ببعض مصاديقه وتطبيقاته في الحجّ وهو توسعة المسعى عرضاً بعدما سبق مثلها ارتفاعاً؛ حيث كان بني طابقان فوق المسعى لهذا الغرض، ولذا كان المناسب عرض ذاك البحث المتقدِّم عرضاً تطبيقيّاً. وليكن حكم هذه المسألة الخاصّة من ثمار ذاك البحث أيضاً. كما تحقق البحث عن حكم التوسعة الحديثة للمسعى وما بحكمها فنقول بعد التوكّل على الله:
من الواجب على الحجّاج والمعتمرين السعي بين الصفا والمروة كما يجب عليهم الطواف بالبيت، والعنوان الواجب المدلول عليه في الكتاب والسنّة هو الطواف بالصفا والمروة أو الطواف والسعي بينهما.
قال تعالى: إِنَّ الصَّفٰا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعٰائِرِ اللّٰهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاٰ جُنٰاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمٰا 1.
والشعائر جمع شعيرة بمعنى العلامة، ومنه شعار القوم والعسكر وهو العلامة الجامعة لهم.
وكون الصفا والمروة من شعائر الله وعلائمه لابدّ أن يكون باعتبار خاصّ غير الخلق التكويني؛ وإلاّ فجميع المخلوقات هي معلولة له تعالى ومخلوقة لله، وكلّ معلول فهو دليل علّته وعلامة عليه، فالمراد من كونهما شعيرة لله كونهما من قيود متعلّقات عمل الحجّ والعمرة اللذين هما من العبادات، والعبادات صلتها بالله ظاهرة، وكونها من شعائر الله واضحة، وكذا ما كان من قيودها من قبيل البيت، وصفا ومروةومشعر وعرفة ومنى وسائر مشاعر العبادات كالمساجد ونحوها.
وإن شئت قلت: المراد من شعيرة الله ما له صلة واضحة بالله تعالى بحيث يكون ذكره أو رؤيته مذكِّراً لله تعالى؛ وذلك كالنبيّ والرسول فإنّه من شعائر الله لكونه رسول الله ومبعوثه، وكذا الإمام المعصوم فإنّه من شعائر الله لكونه منصوباً من قِبله على العباد، وكذا كلّ ما شرّعه الله تعالى من صلاة أو صوم وما شاكل ذلك فإنّها شعائر إلهيّة؛ ومن ذلك قيود العبادات كبيت الله الحرام وعرفات ومنى ومزدلفة وأرض المسعى وحدّها أعني نفس صفا والمروة.
ومن هذا المنطلق كانت ناقة صالح من شعائر الله وكذا البُدن والاُضحية في الحجّ والعمرة وقد قال تعالى: وَ الْبُدْنَ جَعَلْنٰاهٰا لَكُمْ مِنْ شَعٰائِرِ 2.
ومن هذا المنطلق تكون قبور الأنبياء والأوصياء والأئمّة بل والأولياء والصلحاء من شعائر الله، وقد ورد الحثّ على تعظيم شعائر الله، قال تعالى: وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعٰائِرَ اللّٰهِ فَإِنَّهٰا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ 3.
فبناء القبور وتعظيم أصحابها وتقبيل تلك الأبنية ورعاية حرمتها تعظيمٌ لشعائر الله، وفي الحقيقة تعظيم لله تعالى؛ وذاك محض التقوى بنصّ الكتاب، والوجدان شاهد على ذلك والارتكازات العقلائيّة موافقة عليه. والمخالفة مع ذلك معارضة مع العقل السليم والكتاب والسنّة والسيرة الجارية بين المسلمين من دون عصر النبي(ص) والأئمة من أهل بيته(عليهم السلام) حتى اليوم. بل على ذلك جرت سيرة سائر الأديان والعقلاء.
ثمّ إنّ ظنّي أنّ الناس كان سعيهم في الجاهليّة بالطواف حول الصفا والمروة؛ بمعنى إدخالهما في السعي فكان الساعي يأتي بعد الطواف بالصفا إلى المروة ويدور حولها ولو بالطواف ببعضهما بالصعود عليهما والدوران فوقهما ولو باعتبار وجود الأصنام على الشعيرتين ثمّ يرجع إلى الصفا مرّةً اخرى، وهذا وإن لم يكن واجباً حسب النصوص والروايات حيث يجوز الاكتفاء بالسعي بين الصفا والمروة ولكنّه لا يخلّ بالسعي الواجب.
ومنشأ ظنّي بذلك هو تعبير الآية عن نسك السعي بقوله عزَّ من قائل: فَلاٰ جُنٰاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمٰا ، والطواف بالشيء غير الطواف إلى الشيء؛ فإنّ الطواف بمعنى الدوران حول الشيء، يُقال: طاف بالبيت إذا دار حوله؛ ومنه طاف الناس به إذا أحاطوا به، ومنه طاف الماء إذا أحاط بالمكان.
ثمّ لمّا كان الطواف بالشيء يستدعي الإحاطة بالشيء ربّما يُكنّى به عن العسّ الذي يحافظ ويدور على البيوت ليلاً ويطوف في الشوارع فطوافه وإن لم يكن بالدوران حول الشيء ولكنّه بالتحفّظ والمراقبة كأنّه يحيط بالشيء ويدور حوله فهو كناية أو حقيقة.
وقوله تعالى: طَوّٰافُونَ عَلَيْكُمْ 4 إمّا هو تطعيم للطواف معنى التردّد بتجريده عن معنى الدوران أو يكون الطواف فيه بمعنى الإحاطة نظير: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدٰانٌ مُخَلَّدُونَ 5.