34ويؤيّد هذا الأمر أنّه إذا لم يكن القيام واجباً في أصل الصلاة أمكن للمصلّي في داخل الكعبة أن ينام على ظهره ويصلّي متّجهاً نحو السماء، ذلك أنّ داخل الكعبة ومن تمام جهاتها الأعمّ من الأضلاع والزوايا يعدّ قبلةً ومصداقاً بارزاً لقوله تعالى: فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّٰهِ .
وعلى أيّ حال، لم تجعل الكعبة أوّل قبلة للمسلمين حتّى زال التعصّب الجاهلي وعلم المتّبع من المنقلب، قال سبحانه: لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلىٰ عَقِبَيْهِ 1، ذلك أنه لو جعلت الكعبة قبلةً منذ انطلاقة البعثة فسوف تحيا ترسّبات الجاهلية العربية والتعصّبات القوميّة، وبعد أن تأمّن الهدف المذكور ولمواجهة تعصّب يهود المدينة وأطرافها وطعنهم حيث قالوا: لم يكن المسلمون مستقلّين في القبلة بل تابعين لقبلتنا، من هنا حوّل الله القبلة مرّةً اخرى إلى الكعبة.
لقد أدّى توهّم التبعيّة لليهود في أمر القبلة إلى ظهور إحساس الحقارة والذلّة في نفوس المسلمين، حتّى أنّ الرسول كان ينتظر الوحي لحلّ هذا المعضل، قال تعالى: قَدْ نَرىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمٰاءِ 2 رغم أنّ الله تعالى عدّ رسوله الأكرم(ص) أكمل مصداق للهداية حيث قال: إِنَّكَ عَلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ 3، مصرّحاً في أمر القبلة بقوله: وَ إِنْ كٰانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّٰ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّٰهُ 4، لكن مع ذلك كان انتظار النبيّ(ص) من ناحية الطعن والتحقير الذي مارسه معوجّو الفكر وسيّئو اللِّسان ضدّ الإسلام والمسلمين، لا أنّه انطلق من أساس شخصي أو عرقي أو قبلي، من هنا قال تعالى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضٰاهٰا 5، على أساس أنّ الإنسان الكامل الذي وصل إلى مقام الرضا ورضي الله عنه كما رضي هو عنه رَضِيَ اللّٰهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ 6، ليس عنده رضا نفسي أو قومي بل «رضى الله رضانا أهل البيت» 7، فمثل هذا الإنسان يطلب ما يرضاه الله وبإذنه، ولهذا قبل القبلة حيث كانت مرضيّةً عند الله، والله تعالى رضي بالقبلة حيث تكون مصونةً من الطعن.
القبلة هي البُعد الذي لا يتغيّر للكعبة
الكعبة هي ما يتّجه إليه المسلمون في حياتهم ومماتهم ويرتبطون به ارتباطاً دينيّاً مباشرةً، لهذا عُلّمنا أن نقول: «الكعبة قبلتي» 8، إنّ الارتباط المباشر بين المسلمين والكعبة في حياتهم ومماتهم يظهر في بعض الحالات بالاتّجاه نحو القبلة واجباً، مثل حال الصلاة والذبح، واُخرى مستحبّاً، وفي بعض الحالات يكون استقبال الكعبة أو استدبارها حراماً أو مكروهاً، وفي هذا المجال ثمّة نقاط تستحقّ الانتباه وهي:
1 - إنّ الاستقبال غير القبلة، تماماً كما أنّ المراد من استقبال القبلة أو استدبارها هو الاستقبال بمقاديم البدن لا خصوص الوجه.
2 - لاستقبال الكعبة بالنسبة لسكّان المناطق البعيدة امتداد واسع وملاكه الصدق العرفي لا الصدق الرياضي، ففي نظر العرف يعدّ استقبال المسجد الحرام من خارج الحرم استقبالاً حقيقيّاً للقبلة لا مجازيّاً، حتّى لو لم يكن كذلك من ناحية الحسابات الهندسيّة.
3 - لقد أشار بعض العلماء الكبار إلى أمر ظريف هنا يكمن في أنّ الكعبة ليست قبلةً في نفسها، وعليه فإذا جرف الكعبة سيلٌ أو ما شابه فخرّبها فلا يعني ذلك زوال القبلة وانعدامها، بل إنّ فضاءها وبُعدها الخاصّين لا يقبلان التغيير والتبديل، حيث يمتدّان من أعماق الأرض وتخومها إلى أوج السماء وعنانها 9.
فالكعبة وضعت في مكان القبلة، من هنا فمن هو في أعماق الأرض أو في مرتفعات الجبال يمكنه أن يتّجه إلى الكعبة ويصدق عليه استقبال القبلة.
قبلة الأنبياء(عليهم السلام)
لقد كان الأنبياء وأتباعهم أهل الصلاة والسجود، قال تعالى: وَ جَعَلَنِي مُبٰارَكاً أَيْنَ مٰا كُنْتُ وَ أَوْصٰانِي بِالصَّلاٰةِ وَ الزَّكٰاةِ مٰا دُمْتُ حَيًّا 10، وقال سبحانه: أُولٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّٰهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنٰا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْرٰائِيلَ وَ مِمَّنْ هَدَيْنٰا وَ اجْتَبَيْنٰا إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آيٰاتُ الرَّحْمٰنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضٰاعُوا الصَّلاٰةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَوٰاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا 11.
وحيث كان للصلاة والسجود جهة وقبلة، وجب إمّا القبول بجهة خاصّة بوصفها قبلةً أو أن نقول - طبقاً لقوله تعالى: فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّٰهِ 12: إنّ تمام الجهات متساوية في الشريعة ولا ترجيح لأحدها في الاستقبال على الاُخرى، وهو فرض بعيد؛ حيث يستفاد من ظاهر الآية الشريفة: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّٰاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبٰارَكاً وَ هُدىً لِلْعٰالَمِينَ 13 بمعونة الأحاديث المأثورة أنّ الكعبة كانت محلّ تكريم واحترام من جانب الأنبياء جميعهم، ورغم أنّ ظاهر الآية ليس ناظراً إلى ناحية بُعد القبلة في الكعبة، لكن على فرض انعقاد ظهور إطلاقي فيها لانحصار القبلة في الكعبة يمكن تقييد الإطلاق المذكور بدليل معتبر آخر إذا كان موجوداً.
وعلى أيّة حال، فحرمة الكعبة محرزة منذ قديم الأيّام إلى حدّ أنّها كانت محلّ تقدير وتكريم منذ آدم حتّى الخاتم(ص) تماماً، كما هو بُعد المطاف فيها مستمرّاً، نعم لبُعد القبلة في الكعبة أحكام فقهيّة مختلفة يمكن تصوّرها عبر الأعصار والقرون، تماماً كما نشاهد هذا التنوّع في صدر الإسلام إلى أن جاء الحكم الدائم للقبلة.
ملاحظة: كان بيت المقدس الذي بناه داود وسليمان 14 ومنذ بنائه قبلةً لبني إسرائيل، وما يزال حتّى الآن كذلك، كما أنّ المسلمين قبل تحويل القبلة كانوا يصلّون إليه، ورسول الله(ص) كان في مكّة يصلّي إليه وإلى الكعبة معاً قدر الإمكان، بحيث يتّجه إليهما في آن واحد 15.
الكعبة أشرف من بيت المقدس
1- يشكّل المسجد الحرام والمسجد الأقصى مبدأ المسير الأرضي للمعراج النبوي ومنتهاه، قال تعالى: سُبْحٰانَ الَّذِي أَسْرىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بٰارَكْنٰا حَوْلَهُ 16، فطبقاً لهذه الآية الشريفة أطراف المسجد الأقصى مليئة بالبركة، كما أنّ مكّة المكرّمة هي