33بذلك نقص عملهم 1.. كما كان البيت المعمور قد صنع لذلك، كذا الكعبة صنعت للطواف حولها حتّى يرمّم الجميع قصورهم ويجبروا تقصيرهم سيّما الغفلة عن مقام الإنسانية والسهو والنسيان أو العصيان في محضر خليفة الله.
من هنا، فأفضل تنبّه للطائفين الغافلين والحجّاج الذاهلين هو تدارك الجهل وجبران غفلتهم بأنفسهم وعدم معرفتهم للمقام الشامخ للإنسان الكامل وخليفة العصر بقيّة الله، حتّى يغدو كالملائكة مقبول الطواف ومشكورَ السعي.
بناءً عليه، رغم أنّ النظر إلى الكعبة محمود وممدوح، والناظر إليها مُثاب ومأجور 2، إلاّ أنّه كما هي كلمة التوحيد مشروطة بالولاية، حصن الأمن ودرع النجاة 3، كذلك النظر العرفاني - المنسجم مع الولاية - إلى الكعبة هو أيضاً أساس غفران الذنب، وأصل نيل الجاه، والتحرّر من حفرة الطبيعة وغمّ الدنيا والآخرة، تماماً كما يقول الإمام الصادق(ع): «من نظر إلى الكعبة بمعرفة، فعرف من حقّنا وحُرمتنا مثل الذي عرف من حقّها وحرمتها، غفر الله ذنوبه وكفاه همّ الدُّنيا والآخرة» 4. وشاهد ذلك عدم قبول عبادات منكري الولاية.
من هذا المنطلق يتّضح معنى الحديث الوارد في محبوبيّة أرض مكّة وكلّ ما كان في فضائها وعليها، أعمّ من التراب، والحجارة، والأشجار، والجبال والماء 5، أي أنّ منطقة الحرم التي يعدّ إدراك حقّها ومعرفة حرمتها معرفةً مندمجةً بعرفان حقّ الولاية وامتثال آثار الولاء أحبّ الاُمور، ولا شيء مثله في المحبوبيّة، ذلك أنّ القرآن عدل الثقل الأصغر (الولاية) وهو محبوب العارفين بالثقلين ومعروفهم، وأرض الوحي أساس انبعاث هذا الإقدام الممزوج بالامتثال، وهذه المعرفة المتناغمة مع العمل، من هنا كانت أكثر الأراضي محبوبيّةً.
فإذا كانت الكعبة مدينةً بتمام ألوان الشرف، وقد قدّرت وظائف لذلك، فروح هذه المراسم والمناسك هي الولاية والإمامة ومعرفة الإمام والخضوع له والتسليم أمامه، على هذا الأساس تطرح فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، ويتوهّم فريق أنّه أفضل منه، فيبيّن الله تعالى أفضليّته بوصفه أبرز مصاديق أهل الإيمان والجهاد، قال سبحانه: أَ جَعَلْتُمْ سِقٰايَةَ الْحٰاجِّ وَ عِمٰارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ جٰاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ 6.
إنّ حرمة الكعبة - التي يوجب هتكها والإساءة إليها العذاب الإلهي الأليم - منطلقة من حرمة الولاية التي هي باطن المقامات النبويّة الشامخة ومقامات الرسالة والإمامة، من هنا فمن لم يعرف إمامه، وكانت حياته كموته جاهليّين 7 إذا احتمى بالكعبة فلا يأمن بالأمن الإلهي، بل يُعطى عدوّه مهلةً حتّى يلقي القبض عليه، حتّى لو كان ذلك في إطار تخريب الكعبة، ذلك أنّه: «لم يناد بشيء كما نُودي بالولاية» 8.
وقد تقدّم مزيد من التوضيح حول العلاقة بين شؤون الحجّ المختلفة وعين الولاية في الفصل الخامس من القسم الأوّل.
16 - علامة القبلة
تكمن أهمّية القبلة ومكانتها في أنّها علامة على كيان الدِّين والاُمّة، تماماً كما يسمّى المسلمون «أهل القبلة» ويُعرفون أيضاً بأهل القرآن؛ ولهذا اعتبر الله سبحانه القبلة امتحاناً كبيراً، حيث قال: وَ إِنْ كٰانَتْ لَكَبِيرَةً 9.
لقد كان بيت المقدس قبلة المسلمين قبل الهجرة ومقداراً بعدها، رغم أنّ رسول الله(ص) كان يسعى - حدّ الإمكان - أثناء الصلاة أن يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس حتّى يتمكّن في آن واحد من الصلاة إلى الكعبة وإلى بيت المقدس 10.
نعم، هذا العمل لم يكن ممكناً في المدينة المنوّرة، من هنا تغيّرت القبلة بعد سنة وبضعة أشهر من الهجرة إلى المدينة بأمر من الله لتتحوّل من بيت المقدس إلى الكعبة، وهنا قال أعداء الإسلام اللجوجون والمعاندون: إذا لم يكن التوجّه إلى بيت المقدس حقّاً فلماذا كانت الصلاة إليه لأكثر من أربعة عشر عاماً - طبقاً لكون الصلاة قد فرضت في أوّل البعثة - وإذا لم يكن استقباله حقّاً فلماذا تحوّل محمّد عنه؟!
وبالأخذ بعين الاعتبار في القبلة عنصر الجهة لا المكان، على خلاف الطواف حيث العبرة فيه بالمطاف والمكان لا الجهة، أجاب الله سبحانه اعتراضهم هذا بالقول: لِلّٰهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ 11، بمعنى أنّ جميع الجهات لله تعالى، إذ كلّ شيء مِلكه ومُلكه 12، وزمام الأشياء بيده وإليه 13. وانطلاقاً من كرويّة الأرض وحركتها الوضعيّة نرى:
أوّلاً: أنّ تمام نقاط الأرض تعدّ مشرقاً ومغرباً بملاحظة طلوع الشمس وغروبها.
ثانياً: إذا لم يكن هناك مشرق ومغرب فلا شمال ولا جنوب أيضاً، وعليه فتمام الجهات متساوية في ملك الحقّ سبحانه، ولا مزيّة لأحدها على الاُخرى، فبيت المقدس ليس بأشرف من الكعبة حتّى يكون العدول عنه مستحيلاً عقلاً وممنوعاً؛ فلا رجحان ذاتيّ لأيّ من هذه الجهات، فكلّها لله، وهو المبدأ الفاعلي لجعل هذه أو تلك قبلةً.
وبناءً عليه، فكلّ جهة يتّجه إليها الإنسان هي وجه الله، قال سبحانه: فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّٰهِ 14، من هنا لا خصوصيّة للكعبة من هذه الناحية، أي أنّ الأمر ليس بحيث لو لم يستقبل الإنسان الكعبة فلا يكون مستقبلاً لله سبحانه، حتّى لو كان رسول الله(ص) يجلس بنحو القبلة 15.
إنّ وجوب الاتّجاه نحو الكعبة في بعض الاُمور، مثل: الصلاة والذبح، وحرمة ذلك أو حرمة استدبار الكعبة في موارد اخرى إنّما هو منحصر في نطاق الأحكام الفقهيّة، وإلاّ فلا جهة من الجهات يمكنها أن تحدّد الله تعالى.