32كما أنّه لا يوجد عند الله أحبّ من الإسلام المتمثّل بالكعبة، كذلك ليس هناك من بقعة أحبّ إلى الله تعالى من الكعبة، من هنا يقول الإمام الصادق(ع):
«إنّ الله اختار من كلّ شيء شيئاً واختار من الأرض موضع الكعبة» 1.
لقد انتشر في صدر الإسلام تفكير إسرائيلي مصحوب بترسّبات جاهليّة على يد أفراد مثل كعب الأحبار، كمرض ووباء معدٍ، وقد وقفت العترة الطاهرة - وهي عدل القرآن - وبكلّ قوّة وصلابة في وجه هذا المرض وإبطاله، وهذا أُنموذج لذلك:
يقول زرارة:
«كنت قاعداً إلى جنب أبي جعفر(ع) وهو محتب مستقبل الكعبة، فقال: أما أنّ النظر إليها عبادة، فجاءه رجل من بجيلة يُقال له: عاصم بن عمر، فقال لأبي جعفر(ع) : إنّ كعب الأحبار كان يقول: إنّ الكعبة تسجد لبيت المقدس في كلّ غداة، فقال أبو جعفر(ع) : فما تقول فيما قال كعب الأحبار؟ فقال: صدق القول ما قال كعب، فقال أبو جعفر(ع) : كذبت وكذب كعب الأحبار معك، وغضب، وقال زرارة : ما رأيته استقبل أحداً يقول: كذبت، غيره. قال: ما خلق الله عزّ وجلّ بقعةً في الأرض أحبّ إليه منها، ثمّ أومئ بيده نحو الكعبة، ولا أكرم على الله عزّ وجلّ منها...» 2.
لم يُسند إليه تعالى البيت المقدّس - رغم كلّ قداسته - إلى نفسه، وإنّما اطلق هذا التعبير بحقّ الكعبة حين قال: بَيْتِيَ 3، نعم أسندت الكعبة - من جهة - للناس حيث قال تعالى: ...وُضِعَ لِلنّٰاسِ 4، إلاّ أنّ هذا الإسناد المرفق بحرف اللاّم يدلّ على أنّ الكعبة جعلت - من حيث التشريع - معبداً وقبلةً ومطافاً للناس.
12 - منشأ البركة
الكعبة منشأ البركات الكثيرة ووسيلة هداية العالمين، قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّٰاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبٰارَكاً وَ هُدىً لِلْعٰالَمِينَ 5، فالله سبحانه ثابت دائم بنفسه، وخيراته شاملة للعالم كثيرة حول الكعبة وثابتة، من هنا كان وصف «مباركة» الذي يُطلق على الشيء الثابت الدائم.
ومن علامات «المبارك» في الكعبة استمرار العبادة في أطرافها، حتّى لا ينقطع الطواف ولا للحظة واحدة من حولها باستثناء حالة صلاة الجماعة، كما أنّ الثواب على العبادات عندها مضاعف، وكذلك غفران الذنوب إلى جانبها 6، والظاهر أنّه لا يوجد دليل على تقييد هذه البركة.
13 - الكعبة وسيلة الهداية
الكعبة وسيلة هداية العالمين، قال سبحانه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّٰاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبٰارَكاً وَ هُدىً لِلْعٰالَمِينَ ، فكلّ العباد والسالكين يتوجّهون إلى الكعبة، ومن هناك انطلقت دعوة الحقّ على يد الكثير من الأنبياء(عليهم السلام) حتّى بلغت مسامع العالمين، من هنا قال سبحانه عنها: وَ هُدىً لِلْعٰالَمِينَ تماماً كما دعا خاتم الأنبياء(ص)أصل الناس إلى التوحيد من هناك، وكذا خاتم الأوصياء(ع) سيكون منطلقه وظهوره من تلك النقطة أيضاً نحو العالمين، وهناك الآيات الإلهيّة الواضحة، قال سبحانه: فِيهِ آيٰاتٌ بَيِّنٰاتٌ 7 ووسائل اخرى كثيرة لهداية الناس إلى الحقّ.
ومن مصاديق الهداية الإلهيّة في تلك الأرض معرفة الله تعالى بدلالة الآيات البيّنة في الكعبة وأطرافها، وكذلك دلالة الكعبة على الجهة التي لابدّ من الصلاة نحوها، وهي الطريق إلى الجنّة الذي يتمّ العثور عليه عبر إقامة الحجّ والطواف حولها 8. لكن وكما أُشير آنفاً.. لا دليل على تقييد البركة والهداية المذكورين، كما لا تفصيل بينهما وتمييز.
14 - حماية الكعبة
اسّست الكعبة حتّى يتّجه إليها العابدون، وحيث كانت العبادة لازمةً للإنسان وضروريّة، ولا تقبل هذه السنّةُ القديمة الإلهيّة الزوالَ، كذلك الحجّ - كالصلاة - من الاُصول الرئيسة للإسلام، وأحد أبرز الوجوه العبادية للشرع عموماً ودوماً حماية الكعبة وحفظها من الهجوم والسهام الحاقدة، ولهذا كان ذلك جزءاً من البرامج الإلهيّة الحتميّة، وعلى هذا الأساس هلك أصحاب الفيل بمعجزة غيبيّة لمّا أرادوا هدم الكعبة وإعدامها 9.
والذي يُستفاد من الآية الشريفة: وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحٰادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذٰابٍ أَلِيمٍ 10 أنّ التصميم على القيام بالظلم في الحجّ والزيارة للكعبة، وإن لم يكن يبلغ حدّ العمل، إلاّ أنّه يوجب الانتقام الإلهي أيضاً، وكلّ شخص يريد الظلم بإلحاد، أو يسدّ هذا السبيل الإلهي، ويصرف الناس عن زيارة الكعبة والعبادة.. فإنّه سوف يكون مشمولاً لهذا التهديد المرعب المخيف، والله سبحانه سوف يذيقهم عذاباً أليماً، وإذا ما وقعت الكعبة في بعض فترات التاريخ موقع الظلم وإرادة إلحاق الضرر معها ولم يلحق المهاجمين المعتدين العذاب فوراً، فإنّ ذلك كان لسبب سوف يأتي ذكره عند الحديث عن العلاقة بين الكعبة والإمامة وأهمّية مقام الإمامة الرفيع.
أمّا عن حماية الكعبة ومصونيّتها فقد تقدّم الحديث عن ذلك مفصّلاً نسبيّاً في الفصل الثالث من القسم الأوّل، لا سيما في الفرع الثالث عند الحديث عن «علاقة الحجّ وشؤونه بالولاية» 11.
15 - الولاية روح الكعبة
تحاذي الكعبة البيت المعمور، وهو في مقابل العرش الإلهي، وقد بني البيت المعمور حتّى يحصل الملائكة الذين لم يعرفوا لمقام الإنسانية الخلافة ويجعلون التسبيح والتقديس الصادر منهم سنداً مناسباً لصيرورتهم خلفاء لله، وتعرّفوا بالتنبيه الإلهي على أوج مقام الإنسان الكامل، وأعلنوا الندم على ما اقترفوه، كاتبين استقالتهم، معلنين ندمهم عبر الاستفهام التعجّبي والاستخبار والاستعلام والاستسفار... حتّى يطوف هؤلاء به، فيرمّمون