27إنّ الروح الطاهرة لزوّار الكعبة ستصل بالإمداد الإلهي ونيل توفيق المتعالي والصعود والرقيّ إلى المقام الشامخ للبيت المعمور ثمّ إلى مقام العرش، قال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصّٰالِحُ يَرْفَعُهُ 1، وكما أن تنزل العرش الإلهي، وكذلك البيت المعمور على نحو التجلّي لا التجافي، كذلك في الإنسان وتعاليه نحو المقام الأعلى يكون في صورة الصعود الروحاني ، لا الترقّي المكاني أو التجافي الأرضي، وعليه فإذا لم يدرك الزائر هذا المعنى الراقي ولم يكن هدفه من الطواف حول الكعبة هو التعالي الروحي، ولم يرَ هذا البيت معادلاً للبيت المعمور، ولم يفهم أنّ هذا البيت المكعّب كالعرش في الأرض، فلن يدرك المكانة الرفيعة للكعبة، ولن يعقد طرفاً لنفسه للقبول بمصطلح علم الكلام، رغم أنّه استفاد من الصحّة والقبول السائدين في علم الفقه.
إنّ المقيم للحجّ والمعتمر الذي يفكّر تفكيراً أرضيّاً يطوف حول الكعبة، إنّه محدود التفكير في أن لا يتخطّى الحدود الفقهيّة للمطاف (26/5 ذراعاً أو 13 متراً وزيادة)، إلاّ أنّ الذي تكون همّته وفكره أعلى وأرفع يطوف بالكعبة والبيت المعمور، فيما الطائف الأعمق نظراً يتخطّى الآخرين فيطوف حول الكعبة والبيت المعمور والعرش، ومثل هذا الحاج والمعتمر يصير قلبه عرش الرحمن، إنّه الأوحدي من المعتمرين والحجّاج الذي يدور حول التسبيحات الأربع، فمن وجهة نظر هذا الزائر لا تكمن قيمة الكعبة وشموخها في ارتفاع جدرانها وإنّما في رفعة الله تعالى لإسمها وذكرها وهو الأساس في رفعة الطائفين، تماماً كما كان الرسول(ص) مرفوع الذكر وَ رَفَعْنٰا لَكَ ذِكْرَكَ 2، وإلاّ فالكعبة وسط الأبنية والأبراج العالية المحيطة بها لا يظهر منها ولا يبرز شيء سوى منارات المسجد الحرام.
2- قيام أُسس الكعبة على التوحيد المحض
إنّ بناء الكعبة وتعيين أبعادها وشكلها إنّما هو بهداية من الله سبحانه، قال تعالى: وَ إِذْ بَوَّأْنٰا لِإِبْرٰاهِيمَ مَكٰانَ الْبَيْتِ أَنْ لاٰ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً 3، فهذه الآية تعني أنّ مكان الكعبة وهندستها مع رعاية الموضع الخاص لها إنّما حصل بهداية إلهيّة، على أساس التوحيد الصرف، بحيث ليس ثمّة شرك إطلاقاً أعمّ من الشرك الجليّ والخفي بمكّة يمكنه أن يلوّثها.
وانطلاقاً من أنّ «كلّ أثر هو مظهرٌ للمؤثّر وكلّ مؤثّر متجلّي في أثره»، فإنّ أيّ وصف ممتاز لحقّ الشخصيّة البارزة، للنبيّين الكبيرين والبانيين العظيمين للكعبة؛ أي الخليل والذبيح، وجاء في النقل حولهما، يعدّ سنداً دالاًّ على رسم خطوط المظهر المعنوي للكعبة، وهو بمثابة شرح لمصالح بنائها، وعليه فكما لم يكن إبراهيم يهوديّاً ولا نصرانيّاً، وإنّما كان حنيفاً، وسطاً، مسلماً، موحِّداً، ومنقاداً محضاً، ذائباً في التوحيد، معصوماً من تأثير أيّ نوع من أنواع الشرك، يمكن أن تكون أوصاف الاعتدال والتوحيد والانقياد من عناصر هندسة الكعبة، كما يظهر في بنائها خلوص وصفاء بنّائيها، فقد مزجت هندستها بقداسة الخلوص.
من هنا، فكلّ من كان أكثر قرباً لإبراهيم وأليق به كان أكثر لياقة لأن يكون حامياً للكعبة ولعمرانها الصوري والمعنوي، وهذا الفريق - غير أنصار إبراهيم في عصره - هم الرسول الأكرم(ص) والمؤمنون الأصيلون الخالصون الذين لا ينتمون إلى اليهوديّة ولا إلى الانحراف، وإنّما إلى الاعتدال في العقيدة والخلق والعمل الصالح، وهم غير مبتلين بالشرك الاعتقادي ولا الأخلاقي ولا العملي.
وانطلاقاً من أنّ الأثر مظهرٌ للمؤثّر وأوصافه لها أثر فيه، نلاحظ كيف قام مسجد قبا على أساس التقوى والرضوان الإلهي، فيما أُسّس مسجد ضرار على أساس الشرك والجرف الهار الذي ينهار به في نار جهنّم 4.
وعلى أيّة حال، فالكعبة بهذه الهندسة الإلهيّة موضوع ومتعلّق للكثير من الأحكام والفروع الفقهيّة، ومن بينها الحجّ، وكلّها تدور حول الأخلاق الصحيحة، وترتهنّ تلك الأخلاق الصحيحة بالعقيدة السالمة التوحيديّة، وكما كان التوحيد شجرة طوبى والتقوى ثمرة من ثمارها، كذلك الكعبة بُنيت على أساس التوحيد الخالص المنزّه عن مختلف أشكال الشرك، فكانت أصلاً لكافّة الأبنية المؤسّسة على التقوى، ومن بينها بناء مسجد قبا المقام على التقوى، حيث كان فرعاً من فروع هذا الأصل، وثمرةً من بذوره.
ومن نماذج هذا التجلّي للتوحيد الخالص عند الموحّدين الحقيقيّين ما نقل من أنّه:
«قيل للزهري: من أزهد الناس في الدُّنيا؟ قال: عليّ بن الحسين(ع) حيث كان، وقد قيل له - فيما بينه وبين محمّد بن الحنفيّة من المنازعة في صدقات عليّ بن أبي طالب(ع) - : لو ركبت إلى الوليد بن عبد الملك ركبة لكشف عنك من عزر شرّه وميله عليك بمحمّد فإنّ بينه وبيني خلّة، قال: وكان هو بمكّة والوليد بها، فقال: ويحك أفي حرم الله أسأل غير الله عزّ وجلّ؛ إنّي آنف إذ أسأل الدُّنيا خالقها، فكيف أسألُ مخلوقاً مثلي؟» 5.
3- تشييد أركان الكعبة على الخلوص الأصيل
إنّ بناء الكعبة ورفع بنيانها عبادة خالصة قام بها إبراهيم الخليل وإسماعيل، حيث لم يفعلا ذلك إلاّ لله، ولم يطلبا جزاءً ولا شكراً على ذلك من أحد، قال تعالى: وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْرٰاهِيمُ الْقَوٰاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْمٰاعِيلُ رَبَّنٰا تَقَبَّلْ مِنّٰا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 6.
ولم يكن هذا الإخلاص والخلوص لفظيّاً، وإنّما كان قلبيّاً كامناً في أرواحهم كما هو ظاهر على ألسنتهم؛ ذلك أنّ الذي يأتي الله تعالى بقلب سليم 7 فإنّ قلبه لن يطلب ولن ينوي غير الله سبحانه، وأنّ قوله: يٰا أَبَتِ افْعَلْ مٰا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شٰاءَ اللّٰهُ مِنَ الصّٰابِرِينَ 8 يعني أنّ طهارة ضميره لن تتلوّث بما ينافي خلوصه وإخلاصه.
لقد قامت الكعبة على أساس الخلوص، ولأجل تقوى البنّاء وقعت موقع القبول من الله تعالى؛ وحيث كانت هندسة الكعبة على أساس التوحيد وعمرانها على أساس التقوى والخلوص.. لذا نالت شرف الانتساب إلى الله سبحانه فصارت بيت الله، وتحوّلت إلى شجرة طوبى أعطت ثمارها في مختلف أنحاء العالم على صورة المساجد والمشاهد المشرّفة، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّٰهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ 9.