28
4- مركز الطهارة ومطاف الطاهرين
لقد كان تطهير الكعبة من الشرك واللوث، وتنزيهها من غبار الطغيان والتمرّد، بأمر من الوحي الإلهي، قال تعالى: وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ وَ الْقٰائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ 1، فقد أمر إبراهيم وإسماعيل بذلك، قال سبحانه: وَ عَهِدْنٰا إِلىٰ إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْمٰاعِيلَ أَنْ طَهِّرٰا بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ وَ الْعٰاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ 2، لقد كانوا ملتزمين تطهير البيت الحرام على نحو الدفع والرفع، أي أنّهم يزيلون آثار الشرك الباقية من الآخرين، كما لا يسمحون بآثار الشرك والانحراف الجديد أن ترسخ وتظهر وتتعاظم.
لقد أحيل تأمين طهارة الكعبة في البداية إلى النبيّ إبراهيم(ع) بوصفه المسؤول الرئيس عن تأسيسها، قال تعالى: طَهِّرْ بَيْتِيَ ، وفي مرحلة البقاء، عهد الأمر إلى كلّ من إبراهيم وإسماعيل، قال سبحانه: طَهِّرٰا بَيْتِيَ ، وسرّ هذا الأمر بالتطهير قبل الوجود، وإفراد الخطاب، ثمّ إعادة الأمر بعد الوجود وتثنية الخطاب هو أنّ الطهارة أساس للكعبة، ووجود الأساس ضروري في مرحلة الحدوث وفي مرحلة البقاء، ولا يمكن أن يقوم بناء دون أساس، كما أنّه إذا كان الأساس خرباً هزيلاً لم يبق البناء.
إنّ حذف متعلّقات الأوامر المذكورة دليل على العموم، أي أنّه لابدّ أن يكون حريم الكعبة من الداخل والخارج وكذا فضاء حرمها المتعلّق بها مصفّى منقّى مطهّر من كلّ رجس ورجز ظاهري أو باطني، فقهي أو طبّي.
وبهذا الميثاق الإلهي في الطهارة:
أوّلاً: ليس هناك من يليق بإدارة الكعبة إلاّ الطاهرين، قال تعالى: وَ مٰا كٰانُوا أَوْلِيٰاءَهُ إِنْ أَوْلِيٰاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ 3، وليس للمشركين على أساس إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ 4 حقّ الدخول إلى هذا الحرم الآمن.
ثانياً: لا يبقى بذلك أيّ مجال لتسافل وتلوّث الشرك والمشركين، ولا لقبح ولوث الصنم وعبادة الأصنام، من هنا كان أوّل ما أقدم عليه الإسلام بعد الانتصار على الإلحاد وعبادة الأصنام هو تطهير الكعبة بأمر من رسول الله(ص) وبيد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع) من لوث الأصنام وكدر الوثنيّة، وعليه فإذا ما صارت الكعبة بعد الخليل والذبيح إلى أيدي صناديد الجاهلية فصارت معبداً للأصنام، إلاّ أنّها عادت للطهارة على اليد المقتدرة لرسول الله(ص) والعضد المتين العلوي، وإذا ما لوّثت يوماً برجس التحجّر والرجز القائمين على تغطية الدِّين 5 عبر شعار «حسبنا كتاب الله» فإنّ حضور الشعب المؤمن والمتديّن والملتزم والمنتظر واقعاً لفرج أهل بيت النبوّة سوف ينزّهها مرّةً جديدة.
وكما أنّ القرآن الكريم في كتاب مكنون لا يمسّه إلاّ المطهّرون 6، فإنّ حقيقة الكعبة وسرّها مطهّران من لمس الأيدي الملوّثة، وليس لغير الطاهر معنويّاً قبل التوبة من توفيقٍ للوصول إليها، ولن يجتمع حولها للطواف سوى الطاهرون، فيجعلونها محور شؤونهم كلّها في حياتهم، حيث إنّ الطيّب من الطيّب والخبيث من الخبيث 7، وذلك كلّه لسببين:
الأوّل: الحجر الأسود الموجود في الكعبة والذي هو بمنزلة يد الله تعالى 8، وعلى يديه - وليس له يد - يمنى 9.
الثاني: لأنّ هناك شخصيتين دينيّتين كبيرتين ونبويّتين كانتا مسؤولتين عن تطهيرها، وليس المقصود من الأمر بالتطهير خصوص التطهير من النجاسات الظاهريّة.
تعدّ آية: وَ عَهِدْنٰا إِلىٰ إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْمٰاعِيلَ أَنْ طَهِّرٰا بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ وَ الْعٰاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ صغرى لقياس كبراه الكلّية موجودة في آية لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجٰالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللّٰهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ 10. رغم أنّ الآية الثانية جاءت في مسجد قبا، إلاّ أنّها أصلٌ كلّي أبرز مصاديقه الكعبة والمسجد الحرام، ذلك أنّ تمام المساجد فروع للكعبة، ولأداء احترام الكعبة تعدّ المساجد الاُخرى محترمة؛ ذلك أنّ لكلّ مسجد محراب يمثِّل مظهره ومَعلَمه، وهذا المظهر يتّجه ناحية الكعبة دوماً، قال تعالى: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ 11.
وتوضيح هذه النقطة أنّ في الإسلام الكثير من الاُمور المشروطة باستقبال الكعبة، إلى حدّ أنّ حياة وممات كلّ مسلم مربوطة بالكعبة، إلاّ أنّ الصلاة عمود الدِّين، والمسجد حتّى لو وضع لأهداف اخرى إلاّ أنّ أهمّ أهدافه إقامة الصلاة فيه، وهي أمر مشروط بالقبلة، ومن هنا فتمام المساجد لها جهة معيّنة وهي جهة الكعبة، وبهذا التحليل يظهر أنّ تمام المساجد متّجهة إلى امّ المساجد الموضوعة في امّ القرى، وهكذا أُسّست.
نعم، القبلة الرسميّة للمسلمين عموماً في العالم هو ذاك البُعد الموجود في الكعبة، والمسجد الحرام إلى جوار الكعبة، فيكون من هذه الناحية مورد توجّه المسلمين في الصلاة، كما أنّ مكّة امّ القرى، بمعنى أنّها من الناحية المادّية أصل المدن كافّة وكذا القرى، كما أنّها من الناحية المعنوية كذلك، ومسألة القبلة من هذا القبيل.
وعلى أيّة حال، فقد بُيّن في ذيل الآية الشريفة المذكورة وظيفة أهل المسجد حيث جاء: فِيهِ رِجٰالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وإذا ما صار شخص طاهراً صار محبوباً لله تعالى، وَ اللّٰهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ، وإذا ما صار محبوباً لله صار مجرى فيض الحقّ، ويجري الله في مقام العمل والفعل أعماله على يديه.
يقول الله تعالى بصراحة حول الكعبة أنّها بُنيت على الطهارة أَنْ طَهِّرٰا بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ وَ الْعٰاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ ، ومع الالتفات إلى هذا الأمر من تعليق الحكم على الوصف وأنّه مشعر بالعلّية يستفاد من الآية أنّ المصلّين غير الطاهرين يجب في الحقيقة ألا يتّجهوا إلى الكعبة، وكذلك الطائفون لا يطوفون بها، بمعنى أنّهم لا يصلّون ولا يطوفون الصلاة والطواف الحقيقيّين، ذلك أنّه لا يمكن نيل سرّ وحقيقة بيت الله دون طهارة، كما أنّه لا يمكن الحصول على معارف من القرآن دونها.