26ومع ملاحظة هذه الخصائص سوف تتّضح أسرار بعض الكلمات التي قالها الرسول الكريم والأئمّة المعصومون حول الكعبة، مثل هذا البيان النوراني للرسول الأكرم(ص):
«من أيسر ما يُعطى من ينظر إلى الكعبة أن يعطيه الله بكلّ نظرة حسنةً، وتُمحى عنه سيّئة، وتُرفع له درجة» 1.
ومثل قول الإمام الصادق(ع):
«النظر إلى الكعبة عبادة» 2، وقوله:
«يصلح ]ثياب الكعبة[ للصبيان والمصاحف والمخدّة يبتغي بذلك البركة إن شاء الله» 3.
وقول الإمام الباقر(ع):
«الدخول فيها دخول في رحمة الله، والخروج منها خروجٌ من الذنوب، معصومٌ فيما بقي من عمره، مغفورٌ له ما سلف من ذنوبه» 4.
وما جاء: «الداخلُ الكعبةَ يدخل والله راض عنه، ويخرج عُطلاً من الذنوب» 5، أي طاهراً منها.
والجدير بالذِّكر هنا، أنّنا قد شرحنا بعض خصائص الكعبة كمنشأ حرمتها وعزّتها، وكذا مركزيّتها للبراءة من الطغيان والشرك ، في الفصل الخامس والسادس من القسم الأوّل.
1- تجلّي العرش
لكلّ شيء عند الله خزائن ثابتة لا تفنى ولا تنفد، وينزل من تلك الخزائن الغيب، قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّٰ عِنْدَنٰا خَزٰائِنُهُ وَ مٰا نُنَزِّلُهُ إِلاّٰ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ 6، لا على نحو التجافي المستلزم للعدم والزوال، وإنّما على نحو التجلّي، وعليه فموجودات عالم المادّة بأجمعها لها أصل محفوظ عند الله تعالى، ويرسل من هذا الأصل إلى الأسفل طبقاً لهندسة خاصّة، وكلّ ما ينزل يكون له علاقةً لله ومرآةً له، قال(ع):
«والحمد لله المتجلّي لخلقه بخلقه» 7، تماماً كما يرجع إليه: أَلاٰ إِلَى اللّٰهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ 8.
ومن جملة هذه الاُمور أجزاء الكعبة وأركانها، وهي التي لها أصل طاهر في المحضر الإلهي، وكلّ هذه الاُمور تنزل من ذاك الأصل الطيّب 9.
وشاهد هذا الكلام رواية وردت في سرّ تربيع الكعبة وقد جاء فيها:
«لأنّها بحذاء البيت المعمور، وهو مربّع، فقيل له: ولِمَ صار البيت المعمور مربّعاً؟ قال: لأنّه بحذاء العرش وهو مربّع، فقيل له: ولِمَ صار العرش مربّعاً؟ قال: لأنّ الكلمات التي بُني عليها الإسلام أربع: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر» 10.
ومضمون الكلام الرفيع والنوراني للإمام الصادق(ع) هو أنّ التسبيحات الأربع التي يقوم عليها نظام الوجود هي السبب في تحقّق العرش المربّع، وتكوّن العرش هو الأساس في تحقّق البيت المعمور، وهو ما يفضي في النهاية إلى تحقّق موجود طبيعي في عالم الطبيعة، ألا وهو الكعبة والجدران الأربعة، ومعنى ذلك أنّ ما هو في عالم الطبيعة انموذج لما في عالم المثال، وعالم المثال هو الآخر انموذج لعالم المجرّدات التامّ، وعالم المجرّدات التامّ أُنموذج للأسماء الإلهيّة الحسنى، التي هي في أعلى التمام، والخلاصة أنّ ذاك النظام الربّاني بترتيب درجات وجوده يعدّ أساساً لتحقّق النظام العقلي والمثالي والطبيعي.
المراحل الأربع لأركان الدِّين ومعارفه
وكما انتظمت الكعبة على نسق العوالم الفوقيّة، كان القرآن والصلاة والصوم والحجّ والعمرة وسائر العبادات والآيات الإلهيّة كذلك، وعلى هذا الأساس، كانت للولاية مراحل أربع كالتي تقدّمت؛ ذلك أنّ الولاية من المباني المهمّة للإسلام، فالولاية والقيادة في عالم الطبيعة وفي المجتمع الإنساني بمنزلة الكعبة، تماماً كما يقول أمير المؤمنين عليّ(ع):
«مَثَلُ الإمام مثل الكعبة؛ إذ تُؤتى ولا تأتي» 11.
وعليه فالوجود الطبيعي والعنصري للولاية بمنزلة الكعبة الطبيعيّة، تماماً كما أنّ الوجود المثالي لها بمنزلة البيت المعمور، ووجودها العرشي بمنزلة الوجود العرشي للكعبة، وكذلك فالولاية لها باطن يقف أمام التسبيحات الأربع؛ من هنا قال الأئمّة المعصومون(عليهم السلام) : «سبّحنا وسبّحت الملائكة» 12، أي أنّهم كما قالوا للناس في النشأة الطبيعيّة: «صلّوا كما رأيتموني أُصلّي» 13، و«خذوا عنّي مناسككم» 14، كذلك في العالم العلوي يعدّ أهل البيت(عليهم السلام) إمام الملائكة، ومن التلقائي أنّ الولاية كالصلاة معراجٌ للمؤمن يتحلّى بصبغة التولّي للأولياء الإلهيّين، وعليه، فكما يُقال لقارئ القرآن: «إقرأ وارق» 15، كذلك يُقال للمصلّي: «صلِّ وارق»، ويقال لمتولّي الأولياء الإلهيّين: «تولّ وارق»، وللحاج والمعتمر: «حجّ واعتمر وارق».
إنّ الذي يطوي المراحل الأربع المذكورة سيكون قلبه عرش الرحمن، «قلب المؤمن عرش الرحمن» 16.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار الرواية التي تبيّن سرّ تربيع الكعبة سوف يتّضح معنى الحديث القائل عن الكعبة: «إنّها قبلة من موضعها إلى السماء» 17؛ ذلك أنّه وإن كان ظاهر هذا الحديث التأكيد على الانتباه للبُعد العمودي بوصفه حكماً فقهيّاً؛ إلاّ أنّه بقرينة الحديث الذي يبيّن سرّ تربيع الكعبة 18 يحكي لنا بدلالته الباطنية عن الارتباط الوجودي ما بين عوالم الطبيعة والمثال والعقل، وهو الطريق الذي يبدو طيّه لنيل الحقائق ممكناً، فالتأمّل والتدبّر في المعارف مستفاد من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير.