177به الألسنة. لكنك في السعي تذهب وتجي، حائراً كحيرة هاجر، ليس ثمة هدف أو وجهة. . . الحاج عند السعي يختزل إلىٰ قدمين، وعينين، ذاهلة، ساهمة، تهرب من نفسها، وتهيم هنا وهناك. العيون يومئذ ليست عيوناً، إنها ضمائر عارية، أو هي ضمائر جلست علىٰ أعتاب العيون، تنظر أوامر الفرار، وهل يتسنى النظر في هذه العيون لأكثر من ثانية؟ ! كنت أظن - إلى اليوم - إنه لا يمكن التحديق في الشمس فقط، لكنني اكتشفت الآن تعذر ذلك مع بحر العيون الساعية أيضاً، ولذت بالفرار.
بعد شوطين فقط من الذهاب والإياب، يتجلىٰ لك بكل وضوح آية لا نهاية صنعتها من هذا الصفر، وذلك حينما تكون متفائلاً، وقد شرعت لتوّك، وإلا سترىٰ نفسك أقل حتىٰ من الصفر، حيال هذه اللانهاية، كقشة في البحر، بحر من البشر، بل ذرة هباء في الفضاء» . ويردف آل أحمد موضحاً ما استولىٰ عليه من ذهول، وتوتر، وانفعال، في المسعىٰ، «أقول بصراحة: شعرت كأني أقترب من الجنون، لفّني شوق عارم أن أرطم رأسي بأول عمود اسمنتي، وأفجره. لا أطيق السعي إلّا إذا كنت مكفوف البصر» 1.
انتخبنا هذا النموذج من كتاب جلال، ليطلع القارئ علىٰ أسلوبه في تحليل مناسك الحج، واستجلاء فلسفة هذه العبادة، التي تؤديها أفواج غفيرة من المسلمين كل عام، باختلاف أعراقهم، ولغاتهم، وبلدانهم، لكنهم يتوحدون في أداء المناسك.
ومع أن آل أحمد لم يتوسع في الحديث عن الآثار المعنوية والأخلاقية للحج، غير أنه بثّ مجموعة أفكار هامة في سياق حديثه عن الأيام التي أمضاها في عرفات، والمشعر الحرام، ومنىٰ، كذلك اهتم بوصف حالته، وحالات من صحبهم