174وضراوة، ولحظات استرخاء، وهدوء، وانشراح. وكل حالة ولحظة من تلك الحالات واللحظات تثير لديه شتّى الهواجس، وتستدعي في وجدانه مختلف الإيحاءات والصور. وإلىٰ ذلك يعود تميز أسلوبه وفرادته في هذه الرحلة، فهو يتألق في مواضع عديدة، فيرتقي إلى الشعر المنثور، أو قصيدة النثر، حسب مصطلح النقد الأدبي اليوم.
5- ليست يوميات آل أحمد تأملات في استجلاء الأبعاد التربوية لعبادة الحج، واستيحاء فلسفة كل واحد من المناسك، كما فعل بعض الذين كتبوا عن الحج، لأن آل أحمد أراد لمذكراته أن تتدفق بعفوية، وتجري بتلقائية، لا تتقيد بترسيمات وحدود مسبقة، بل تواكب حركة الحاج، وأحداث الرحلة اليومية الشديدة الغنىٰ والتنوع، فهي تضم رؤىٰ أنثروبولوجية، ورصد ظواهر اقتصادية، وتحليلات سياسية، وطرائف أدبية، ونقداً ساخراً، ومعلومات تاريخية، وجغرافية. . . وغير ذلك.
لكن رحلة آل أحمد توهجت فيها ومضات، تحدثت عن فلسفة لبعض المناسك، كشذرات رصعت عباراته، خاصة في المواضع التي كان يكتب فيها مذكراته في الأيام التي أمضاها في بقاع المناسك: في عرفات، والمشعر الحرام، ومنىٰ، أو أثناء أداء الطواف في البيت الحرام، والسعي بين الصفا والمروة.
ولا أريد أن أبالغ لو قلت: على الرغم من مطالعتي لمجموعة من رحلات الحج المعروفة، وتشرّفي بإداء الحج والعمرة عدة مرات، فإني وجدت نفسي مع «قشة في الميقات» أنبسط حيث ينبسط جلال، وأنقبض حيث ينقبض، وأعيش في خيالي حالاته وأحاسيسه، في السعي والطواف، وكأني أواكبه في خطواته، وأتماهىٰ مع مشاعره، فأرىٰ ما يرىٰ، وأرتشف ما يرتشف، وأتحسس خطواته، وأستمع إلى ابتهالاته واستغاثاته، وأذكاره. وعندما كنت أقرأ حالاته، أتعطش بوجد وشوق