203فيها أحدٌ. وكأن أبا ذر خلق للصدق، وهو جدير به.
يقول رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله فيه: «ما أظلت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء بعد النبيين امرءاً أصدق لهجةً من أبي ذر» .
وفي رواية أبي الدرداء: «ما أظلت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر» 1.
حقّاً لقد كانت شهادة عظيمة من رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله الذي لا ينطق عن الهوى لأبيذر، يقول الدكتور الجميلي بعد ذكره لتلك الرواية: أعظم صفة لأعظم رجل، من أعظم نبي. . . إنّها صدق اللهجة، وهي من أجل دقائق النعوت الموسوم بها أهل الصدق. وهي نادرة في عنصر البشر، وجرثومة الناس التي امتزج طبعها بشهوة الدنيا، وحب الحياة، وكلفوا بزخرف الفانية وتهالكوا عليه.
ولا جرم أنّ أباذر المشهود بصدق لهجته من النبي الصادق المصدوق، لا جرم أنه حريٍ به وقمين بشخصه أن يصدق عليه أيضاً قوله صلى الله عليه و آله: «يرحم اللّٰه أبا ذر. . .
يمشي وحده. . . ويموت وحده. . . ويبعث وحده» 2.
لقد كلفه صدقه أن يعيش وحيداً، وأن يعيش بعيداً، وأن يموت غريباً. . .
لقد تمرّد أبوذر على واقعه كلّه بعد فترة من نشأته في قبيلة غفار، التي عرف أفرادها واشتهر رجالها بأنّهم قطاع طرقٍ، وبأنهم سادة السطو والسرقة والغدر والقتل، رجل تمرّد على هوى نفسه وعلى بيئته التي ولد فيها ونشأ وترعرع بين أحضانها، وراح يصدع بأن الصدق زينة الرجل، وجمال له. . . وراح يربي نفسه على قول الحق ولهجة الصدق مهما كلفه ذلك من تغريب وتبعيد وتعذيب. . . ولم يكتف بذلك فقد فاجأ الجميع بإيمانه، وصدع به صرخةً مدويةً لا غموض فيها تهزّ ما حوله، جاهراً بشهادة لا إله إلّااللّٰه وأنّ محمداً رسول اللّٰه، أعلنها في وسط لا معين له به ولا ملجأ يلجأ إليه ولا مأوىٰ يأوي وكانت قريش بكامل عزّها وجبروتها وطغيانها. . . فنال بذلك وسام رابع رجل أو خامس رجل لينضمّ الى السابقين