178الجلادين الظلمة، التي تلهب ظهور العبيد والمظلومين، وأن لا تكون مقبرة للبنات، التي تُقتل حال ولادتها خوفاً من العار المزعوم، لم يرد هذا ولا غيره، بل أرادها أن تكون مكاناً وأرضاً نابضة بالحياة يلوذ بها المظلومون، ويأوي إليها الضعفاء والمشردون؛ ليجدوا فيها حقوقهم التي سحقت، وكراماتهم التي سلبت، وأموالهم التي نهبت.
يقول سيد قطب: هذا البيت الحرام الذي قام سدنته من قريش فروّعوا المؤمنين، وآذوهم وفتنوهم عن دينهم حتىٰ هاجروا من جواره. . لقد أراده اللّٰه مثابة يثوب إليه الناس جميعاً، فلا يروّعهم أحد، بل يأمنون فيه علىٰ أرواحهم وأموالهم. فهو ذاته أمن وطمأنينة وسلام 1.
لقد أراد لها أن تكون أرضاً تسير فيها قوافل الإيمان، وتزداد أعدادها وتتضاعف، ويشعّ نورها ويتسع؛ ليتعدى الجزيرة وما حولها إلىٰ كلّ الدنيا وما فيها، وبالتالي يعمّ نموذجُ الأمن وتجربته كلّ البقاع وكلّ الأمم الأخرىٰ.
يقول صاحب التفسير المنير: ومن نعمه تعالىٰ على العرب التي أمر اللّٰه نبيّه أن يذكّرهم بها: دعاء إبراهيم عليه السلام: أن يجعل هذا البلد في أمن وطمأنينة، فلا يتسلط عليه الجبارون، ولا يعكر صفوه المجرمون الآثمون 2.
فهل تحقق كلّ هذا ولم تعبث بهذا الوادي الأيدي القذرة والنفوس السيئة؟
لئن مرّت علىٰ هذا البيت الكريم سنوات خير وأمان وطمأنينة، فقد تعرّض طيلة سنوات عديدة لحوادث سلب ونهب، وضرب بالمنجنيق، وقتل فيه الأبرياء والآمنون، وتسلط عليه الجبارون، وعكر صفوه المجرمون الطغاة، كالقرامطة الذين قاموا بفعلتهم القذرة، من قتل الحجّاج الأبرياء الذين جاءوا يطلبون رحمة اللّٰه ومغفرته ورضوانه، وقاموا بسرقة الحجر الأسود والاحتفاظ به بعيداً عن مكانه لأكثر من عشرين سنة إلىٰ غيرها من الأعمال المشينة قديماً وحديثاً آلمت قلوب المسلمين جميعاً وواجهوها باستنكار بالغ، ومازالت مرارتها في نفوسنا جميعاً.