58التنازل الطوعي الذي يحدث للذات ومصافحة الطبيعة للحاج، لم يكن وليد لحظة الولوج في الميقات، وإنما وليد مجموعة من التحولات على المكان يجمعها تمرين (يأتين من كلّ فج عميق) وتطور عملية (الإتيان) إلىٰ (يأتين) المركّزة المشددة، فهذا التنازل إذن كان قد بدأ ليشطب عليةَ الصراع الداخلي، وإذا ما شعر الإنسان الحاج فعلاً أنه في حضرة تجربة يكون فيها الاتجاه عملياً نحو تصفية منابع هذا الصراع من داخله ومن موقع القرار والحكم، فإن ما يُسمىٰ بالصراعات المادية الأخرىٰ والعراك البشري والحروب والكوارث والنزلات التاريخية سرعان ما تتداعىٰ وتنتفي حيثيتها.
الخلاصة التي يرسمها القرآن الكريم لعملية تصعيد التعاطف بين الإنسان الحاج ودواخله من جهة وبين العالم الخارجي وتحدياته من جهة أخرىٰ تكمن في دلالة الآية « وإذ جعلنا البيتَ مثابةً للنّاس وأمناً» 1. فالأمن وليس السلام مصداق التصالح الكامل في مجتمع الحاج المقترح مستقبلياً. . الأمن هو أفصح بيان في لغة التعامل مع الموجودات في الكون، وما كان السلام يوماً حقيقةً اجتماعية مالم يشبع بالأمن الاجتماعي، فهو ليس إلّاحالة تعقب الحرب أو الخلاف ومن هنا فهو مهدد بالاختراق من أحد أو من كلا الطرفين، لكنه أي (السلام) مناط بحركة الآتين على الضامرات من كلّ فج عميق. . إنه مداخله مع نوعية القوى المقاومة. . حتىٰ إذا امتزج الجهد الإنساني بحركة الطبيعة وتهادى إلى الميقات كان يجب أن يتحول السلام فيه إلىٰ جوهر حياتي. . إلىٰ حقيقة وينطلق في خطوة نوعية أرقىٰ هي (الأمن) . السلام في المنظور الاجتماعي ليس إلّا تدبيراً قانونياً عازلاً يعتمله الإنسان والآخر مع أرضية وحيثية الصراع من أجل أن تكون الأسباب المؤدية ومقاومة الطبيعة حيادية، أو في بعض الحالات يكون السلام مفروضاً، ويمتاز بالصيغة السلبية.