63واحد من أشرف فرائضه. فما هو السرّ الكامن في هذا المشهد؟ ولماذا هذا الاهتمام به في أصل الدين، وتثبيته في الحج؟ وما هو السبب المؤثر والقوي الذي استنزل رحمة اللّٰه - تعالى - بقوة في هذا المشهد، وجعلها مبدءاً لبركات كثيرة في تاريخ أجيال الموحّدين؟
فلابد من أن يكون هذا المشهد ينطوي على سرّ خاص استدعى نزول رحمته - تعالى - في ذاك الوادي القفر، واستدعى دوام هذه الرحمة وثباتها، وجعل منها مصدراً ومبدأً لكثير من البركات، واستدعى أن يثبتها اللّٰه تعالى في حج أجيال الموحدين عند بيته الحرام.
انني اعتقد، واللّٰه - تعالى - أعلم بأسرار هذا المشهد - أن هذا المشهد النادر كان يجمع يومئذ بين ثلاثة منازل من منازل رحمة اللّٰه - تعالى - كلّ منها يستنزل رحمته تعالى.
وأول هذه المنازل الحاجة التي كان يمثلها الظمأ الذي أضرَّ بالطفل الرضيع، والذي جعله أقرب من غيره إلىٰ رحمة اللّٰه تعالى.
ولذلك نرى أن الأطفال الرضّع إذا أضرّ بهم ألم أو جوع أو ظمأ أو برد أو حرّ كانوا أقرب إلىٰ رحمة اللّٰه - تعالى - من الكبار الذين يطيقون ذلك كلّه، ولأن الحاجة تضرّ بهم أكثر من الكبار.
وقد ورد في الدعاء (اللهمّ أعطني لفقري) ، والفقر إلى اللّٰه لوحده يستنزل رحمته - تعالى -، وكلما كان الفقر إلى اللّٰه أعظم كان أدعى لنزول رحمة اللّٰه، فان الفقر إلى اللّٰه يجعل الإنسان عند رحمة اللّٰه، ويقرب الإنسان منه، سواء كان الإنسان يعي فقره إلى اللّٰه أم لا يعي، وإن كان وعي الفقر إلى اللّٰه يضاعف من قيمته وقدرته في استنزال رحمته - تعالى - . ولكن بشرط ألّا يحرّف الإنسان الفقر عن موضعه، فيتصوّره أنّه من الفقر إلى المال أو إلىٰ حطام الدنيا، أو إلىٰ بعض عباد اللّٰه بدل أن يعيه على واقعه من الفقر إلى اللّٰه. وشتّان بين هذا الفقر وذاك الفقر. والذي يستنزل رحمة اللّٰه - تعالى - هو الفقر إلى اللّٰه، فإذا حرّف الانسان هذا الفقر من الفقر إلى اللّٰه إلى الفقر إلىٰ عباد اللّٰه فقد الفقرُ قيمتَه في استنزال رحمته - تعالى -، وأكثر فقر الناس من هذا النوع.
وفي هذا المشهد كان صراخ الطفل وضجيجه وبكاؤه من شدّة العطش مشهداً نافذاً مؤثراً في استنزال رحمة اللّٰه تعالى.
كما أنه ليس في مشاهد الحاجة والفاقة إلى اللّٰه مشهد مؤثر ورقيق يستنزل رحمته - تعالى - أكثر من مشهد طفل يتلظى من العطش، ولا تجد له أُمّه إلى الماء سبيلاً.
والمنزل الثاني لرحمة اللّٰه في هذا المشهد هو (السعي) وهو شرط للرزق، ولا رزق من دون سعي، وقد جعل اللّٰه - تعالى - السعي والحركة في حياة الإنسان مفتاحاً للرزق.
وإذا كان عامل الفقر يُكْسِب الإنسان حالة الاضطرار والفاقة والحاجة. فإنّ عامل السعي يُكْسِب الإنسان العزم والقوّة والإرادة، والحركة والنشاط، وعلى قدر حركة الإنسان وسعيه وعزمه يرزقه اللّٰه - تعالى - من رحمته.
وقد تحركت أمّ إسماعيل - عندما نفد عندهما الماء، وغلب الظمأ على إسماعيل - للبحث عن الماء، وسعت تطلبه