64، تصعد إلى الصفا مرّة، تنظر في الأفق البعيد باحثةً عن الماء، وتنزل من الصفا وتتّجه إلى المروة، تارةً أُخرى، لتصعد عليه وتنظر إلى الأفق البعيد تبحث عن الماء، ورغم أنها استعرضت في هذه الحركة كلّ الأفق من على الصفا والمروة فلم تجد ماءً لم تيأس، وكرّرت هذه الحركة، والصعود والنزول، والهرولة من الصفا إلى المروة وبالعكس سبع مرات، ولولا هذا الأمل والرجاء لانقطع سعيها في الشوط الأوّل، ولكن الأمل والرجاء الذين كانا يعمران قلبها كانا يدعوانها كلّ مرة إلىٰ إعادة السعي مرة أخرىٰ، حتى فرّج اللّٰه عنهما وفجّر زمزم تحت قدمي إسماعيل، ولكن الأمل هنا في اللّٰه وليس في الماء ولو كان أملها في الماء لانقطع أملها في المرة الأولىٰ أو الثانية.
وقد جعل اللّٰه - تعالى - هذا السعي وهذه الحركة شرطاً للرزق، ونزول رحمته على الإنسان، واللّٰه تعالى يرزق عباده، وينزل عليهم رحمته، ولكنه - تعالى - شاء أن يكون السعي والحركة مفتاحاً لرزقه ورحمته.
والمنزل الثالث لرحمة اللّٰه - تعالى - في هذا المشهد: هو دعاء أمّ اسماعيل، وانقطاعها إلى اللّٰه واضطرارها إليه - عزّ شأنه - في طلب الماء في هذا الوادي القفر غير ذي زرع، وكلّما انقطع الإنسان في دعائه إلى اللّٰه أكثر كان أقرب إلىٰ رحمة اللّٰه.
ولست أدري في أية حالة من حالات الانقطاع إلى اللّٰه، كانت هذه المرأة الصالحة في تلك اللحظات في الوادي غير ذي زرع، وليس من انسان أو حيوان حولها، ووحيدها الرضيع يتلظى عطشاً، ويكاد أن يلفظ آخر أنفاسه.
لقد انقطعت المرأة إلى اللّٰه في تلك اللحظة انقطاعاً ضجّت له ملائكةُ اللّٰه بالدعاء، وضموا أصواتهم إلىٰ صوتها، ودعاءهم الى دعائها.
ولو أن الناس كلهم انقطعوا إلى اللّٰه بمثل هذا الانقطاع لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم وعمّتهم رحمة اللّٰه تعالى.
عليكِ سلام اللّٰه يا أُمنا أمّ اسماعيل! من أبنائك الذين آتاهم اللّٰه النور والهدى والإيمان والنبوة، ومن المهتدين بهداهم ونورهم. . . ولولا ذلك الانفراد في ذلك الواد القفر غير ذي زرع في هجير الحجاز، ولولا تلك المعاناة والمحنة لم تنقطعي إلى اللّٰه - عزّ وجلّ - بمثل هذا الانقطاع، في ذلك الموقف العسير على جبلي الصفا والمروة، ولولا ذلك الانقطاع إلى اللّٰه، لم تنزل رحمة اللّٰه تعالى عليكما، ولولا تلك الرحمة لم يكن انقطاعك إلى اللّٰه وسعيك بين الصفا والمروة من شعائر اللّٰه في الحجّ.
« انّ الصفا والمروةَ من شعائر اللّٰه فمَن حجّ البيت أوِ اعتمرَ فلا جُناح عليه أن يطوّف بهما، ومَن تطوع خيراً فإن اللّٰه شاكر عليم» 1.
لقد ثبّت اللّٰه - تعالى - يا أُمّنا؛ انقطاعك إليه في ذلك الهجير، وسعيك إلى الماء، وصراخ صغيرك إسماعيل في ذاكرة التاريخ، ليعرف الأجيال من بعدك كيف يستنزلون رحمة اللّٰه، وكيف يتعرضون لرحمة اللّٰه.
إن رحمة اللّٰه - تعالى - واسعة لا شحّ فيها ولا نقص، ولا عجز، ولكن الناس لا يعرفون مواضع هذه الرحمة ومنازلها، ولا يحسنون التعرّض لها والاستفادة منها.
ومنك تعلمنا يا أمّنا! كيف نطلب منازل رحمة اللّٰه، وكيف نتعرض لرحمة اللّٰه، ومنك يا أمنا أخذنا مفاتيح الرحمة.