15المباحة والمحظورة، وتقويم النفس وتربيتها وتزكيتها، والالتزام بالمأمورات الإلهية، واجتناب المنهيات.
فهذه كلها غايات تربوية سامية تتحقق بممارسة العبادات، ومنها فريضة الحجّ بدءاً من رحلة المغادرة للوطن ثم العودة إليه، وهذه الرحلة تدريب عملي ميداني على آداب الإسلام وأخلاقه، وتجرد خالص للعبادة، وإظهار شامل للطاعة المطلقة، وتصفية الأعمال من شوائب المادة وآصار الدنيا ومغرياتها، وتعلقات الحياة الرغيدة ومفاتنها ، وتجوال الفكر العميق في تقديس اللّٰه - تعالى - وجلاله وعظمته، وتحقيق - كغيره من العبادات - لمنافع الدين والدنيا والآخرة.
قال اللّٰه تعالى في كتابه الكريم: «وأذّن في الناس بالحجِّ يأتوك رجالاً وعلى كلّ ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم اللّٰه في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير» 1فجاء الأمر الإلٰهي - في هاتين الآيتين - بفريضة الحجّ، مقروناً ببيان حكمة الحجّ، للفرد والجماعة والأمة، في نطاق العبادة والنفع الذاتي والاجتماعي والسياسي، فكانت منافعه وفوائده خاصة وعامة، لأنه بمثابة مؤتمر عام، يستفيد منه الحجّاج فوائد دينية بأداء الفريضة، وتربوية أخلاقية بالممارسة الفعلية للعلاقات الاجتماعية الحساسة والعادية، وسياسية إسلامية. يتداول فيه المسلمون - بنحو جماعي - أوضاع بلادهم، وشؤون شعوبهم، بإخلاص وصراحة، وجدية وحرارة، ونقد بنّاء، ومذاكرة في هموم وآمال وآلام الأمة الإسلامية، يعودون بعدها لبلادهم، وهم مزوّدون بماينبغي فعله على الصعيدين: المحلي الخاص والدولي العام، واضعين نصب أعينهم وحدة الأمة الإسلامية ومصلحتها العليا، وأخوّة المؤمنين وما تتطلبه من تضحيات جسام وتعاون وتضامن فعّال، ووقوف بصرامة وجرأة أمام مخططات الأعداء ومؤامراتهم الخبيثة أو المشبوهة، ومحاولة التغلب عليها وإحباطها، حفاظاً على العزّة والكرامة الإسلامية، وحماية لوجود المسلمين، ورعاية لمصالحهم في الداخل والخارج، سواء في وقت السلم والاستقرار، أو في وقت المحنة والحرب والصراع المسلح، والمجابهة الاقتصادية والتحديات المختلفة.
والكلام عن الآية: «ليشهدوا منافع لهم» يحتاج لبيان معنى اللام في الفعل، ومعرفة سبب تنكير كلمة «منافع» ، وتحديد أنواع المنافع.
أمّا معنى لام «ليشهدوا» فهو - كما جاء في تفسير الميزان - للتعليل أو الغاية، والجار والمجرور في «لهم» متعلق بقوله: «يأتوك» والمعنى: يأتوك لشهادة منافع لهم، أو يأتوك فيشهدوا منافع لهم. وجاء في أحكام القرآن لابن العربي : هذه لام المقصود والفائدة التي ينساق الحديث لها، وتنسَّق عليه، - أي أنها لام الغاية والصيرورة - وأجلّها قوله تعالى: «. . . لتعلموا أنّ اللّٰه على كل شيء قدير وأنّ اللّٰه قد أحاط بكل شيء علماً» 2. وقد تتصل هذه اللام بالفعل، كما تقدم، وتتصل بالحرف كقوله تعالى: «. . . لئلا يعلمَ أهلُ الكتاب. . .» 3.
وأمّا تنكير كلمة «منافع» فهو كما قال الفخر الرازي: إنما نكّر المنافع؛ لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة، دينية ودنيوية، لا توجد في غيرها من العبادات. وقال الآلوسي: «منافع» أي عظيمة الخطر، كثيرة العدد، فتنكيرها - وإن