146أما اليهود الذين توجّهوا إلى المناطق التي تسكنها قبائل وثنية، مثل: الحجاز، فقد تمتعوا بحريتهم الكاملة، وإن كانوا قد واجهوا معاناة في بعض الأحيان.
وبشكل عام فإنّ يهود الحجاز تمتعوا بحرية دينية كاملة قبل ظهور الإسلام؛ لأن القبائل العربية التي جاوروها في تلك المنطقة كانت وثنية في معظمها. لذا فإنّ الجزيرة العربية تمثّل المحطة الأولى لهجرة اليهود بعد فتك الرومانيين بهم، حيث انتشروا جماعاتٍ جماعات، استقرت في مواضع المياه والعيون من وادي القرىٰ، وتَيماء، وفدك، وخيبر الىٰ يثرب، وبنوا فيها الآطام لحماية أنفسهم وأرضهم وزرعهم من اعتداء الأعراب عليهم.
كما انتشرت اليهودية في جنوبي الجزيرة العربية حيث اعتنقها كثير من القبائل في اليمن. ومن أشهر المتهودين (ذونواس) ملك اليمن، الذي عرف عنه اضطهاده لنصارى (نجران) .
وقد عمل اليهود على نشر تعاليم «التوراة» ، وتفسيراتها في مناطق سكناهم في شبه جزيرة العرب 1.
وتجدر الإشارة - هنا - إلى أن هجرة المسلمين من مكّة الىٰ يثرب سنة 620م تعتبر بداية تحوّل كبير في مسار الدعوة الإسلاميّة، لأنّها كانت - في الوقت نفسه - بداية صراع من نوع آخر، غير الصراع مع مشركي قريش، أعني بذلك صراعهم مع القبائل اليهودية، التي كانت قد توطّنت يثرب؛ وما حولها منذ زمن بعيد، ومكّنت لنفسها في الأرض.
وكانت (يثرب) في أيدي اليهود قبل هجرة (الأوس والخزرج) إليها 2. ويبدو أن هاتين القبيلتين قدمتا من الجنوب، إذ يرجع نسب (الأوس والخزرج) الىٰ قبيلة (الأزد) اليمنيّة، التي تفرّعت عن (شعب كهلان) ، وهو من نسل (قحطان) أبي اليمنيين جميعاً 3.
ولقد وجد اليهود أنفسهم مضطرين للتعايش مع (الأوس والخزرج) ؛ فأنشأوا معهم علاقات سياسيّة على قدم المساواة 4، وجمعت بينهم مصالح الجوار، مع رجحان المصالح الاقتصاديّة اليهوديّة في المنطقة بشكل ملحوظ، ولم يكن ذلك كافياً للهدوء والسلام بين القبيلتين القادمتين من الجنوب، بل كان الصراع سمة دائمة بينهما اصطبغ بلون الدم ، وسجّل التاريخ مواقع كثيرة سفكت فيها الدماء من الفريقين، وأدّى بهما هذا النزاع الىٰ فتنة مستمرة قسمت يثرب الىٰ معسكرين متنابذين.
وفيما عاش يهود (بني النضير) ، و (بني قريظة) مع الأوس. نرى (بني قينقاع) يحتفظون بمساكنهم المجتمعة المنعزلة 5.
ولم يكن يهود الحجاز بعيدين عن مسببات الصراع بين الأوس والخزرج، ففي وقت من الأوقات خضع (الأوس) للخزرج، وخسروا أرضهم. بَيْد أن (الأوس) ما لبثوا أن تحالفوا مع يهود (بني قريظة) و (بني النضير) ، ومن ثمّ تغلبوا على (الخزرج) في معركة كبيرة حاسمة جرت في (بعاث) ، ولم يعرف الفريقان السلام بينهما بعد هذه المعركة، بل استمرّ النزاع عنيفاً مميتاً 6.
ويتمثل يهود الحجاز بالقبائل والعشائر والبطون التالية:
بنو النضير، وبنو قريظة، وبنو قينقاع، وبنو عكرمة، وبنو عمر، وبنو زعورا، وبنو زيد، وبنو جشم، وبنو بهدل، وبنو عوف، وبنو العصيص، وبنو ثعلبة وغيرهم 7.