155فجعل الله لهم من الحرم (رقعة نموذجية) للحياة الآمنة التي يريدها للناس. بدعاء عبده وخليله إبراهيم (عليه السلام) : وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر (4) .
هذا هو دعاء العبد الصالح إبراهيم (عليه السلام) : وقد استجاب الله تعالي لدعاء عبده وخليله إبراهيم (عليه السلام) فقال: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وامنا (5) .
والمثابة: المحل الذي يرجع إليه الناس. وقد جعل الله - تعالي - البيت مثابة للناس يجمع الناس ويرجعون إليه، ويقصدونه من كل فج عميق، ثم جعله آمنا يأمن فيه الناس بعضهم من بعض، ولا يحذر فيه أحد الآخرين علي نفسه؛ يقول تعالي: أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً (6) ، وجعل رقعة الحرم رقعة نموذجية لساحة الحياة كلها، كما جعل الشهر الذي يتم فيه الحج (ذوالحجة) من الأشهر الحرم. يقول الله تعالي: ومن دخله كان آمن ا (7) .
وحتي الجدال الذي ينطوي علي نوع من العدوان علي الآخرين يحرمه الله تعالي علي الحجاج. فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج (8) .
فإن الجدال منفذ للعدوان بين الناس. وكثير من العدوان يبدأ بين الناس من الجدال الذي يسعي فيه كل من الطرفين المتجادلين إلي إثبات الذات وتجاوز الطرف الآخر.
والأمن في الحرم أمن شامل، يشمل حتي الحيوان والنبات، فلا يجوز الصيد في الحرم، ولا يجوز قطع النباتات والأشجار في منطقة الحرم إلا في حالات خاصة يذكرها الفقهاء. . وحرمة الصيد وقطع النباتات لا تخص حالة الاحرام، فإنهما تحرمان علي المحرم والمحل معاً في منطقة الاحرام. والحرم في الاسلام عينة صغيرة لساحة الحياة كلها، والذي يجب أن يعرف رأي الاسلام في الحياة؛ فإن هذه العينة الصغيرة والرقعة المحدودة من الأرض تجسد تخطيط الاسلام لساحة الحياة الواسعة، فإن العلاقة فيما بين الناس والارتباط والتلاقي هو الافراز الطبيعي للحياة الاجتماعية. فمن أجل هذه العلاقة واللقاء والتلاقي خلق الله - تعالي - الانسان اجتماعياً وأعدّه للحياة الاجتماعية. ولا يبلغ الانسان الكمال والنضج الذي أعده الله تعالي له إلا في وسط هذه العلاقات واللقاءات والتلاقي في الحياة الاجتماعية. فلو أن انساناً اعتزل الحياة وعاش وحده في جزيرة قاصية لم يبلغ بالتأكيد النضج والكمال الذي أعدّه الله - تعالي - له. وهذه اللقاءات والعلاقات إنما تثمر وتعطي وتنتج في حياة الانسان، فيما إذا توفر له الجو السليم، الأمن والسلام. أما عندما تكون هذه العلاقة في جو من الريبة والحذر، والخوف والقلق والعدوان والكيد والمكر، فإن هذه العلاقة والارتباط فيما بين الناس لا تكاد تثمر هذه الثمرة، ولا تكاد تبلغ بالانسان النضج والكمال، الذي يطلبه الانسان في الحياة الاجتماعية، من خلال هذه العلاقات واللقاءات والارتباطات، بل قد تعود العلاقة في مثل هذا الجو إلي نتائج سلبية في حياة الانسان.
فالاسلام يخطط بناءً علي هذا الفهم لضرورة العلاقة وحدودها في حياة الانسان، ليجعل العلاقة فيما بين الناس في الحياة الاجتماعية في جو آمن وسليم، فيأمن الانسان الآخرين علي نفسه في حضوره وغيبته، وفي نفسه، وعرضه، وماله، ويأمن علي نفسه من ألسنة الآخرين وأيديهم، ومن مكرهم وكيدهم وعدوانهم، فيعيش في جو من الأمن الشامل، ويبني علاقاته كلها مع الآخرين في هذا الجو الآمن، في السراء والضراء، وفي التجارة والبيع، وفي الزواج والعلاقات الاجتماعية، وفي علاقاته مع أصدقائه وزملائه، وفي علاقاته مع أعضاء أسرته، وفي ارتباطه بمن هو فوقه ومن هو دونه، وحينما يأخذ وحينما يعطي، وحينما يحتاج إلي الآخرين وحينما يحتاج إليه الآخرون. . .