154إن الناس قبل أن يتجاوزوا الميقات إلي الحرم مجموعة من الأفراد، يتمايزون فيما بينهم، ويتزايدون، ويتفاخرون، ويتجادلون، ويضر بعضهم بعضا، ويعتدي بعضهم علي بعض، وتجمعهم المجامع من المدن والضواحي والقري فتتجمع في هذه المجامع النزعات المتضاربة والأهواء المتخالفة والرغبات المتضادة، فتكون الجامع البشرية ساحة للصراع والخلاف. أمّا عندما يتجاوزون الميقات إلي الحرم، ويصبون - من خلال قنوات المواقيت التي وقّتها رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم - إلي الحرم، فإنهم يتحولون إلي أمة واحدة، ويتحركون باتجاه واحد ويلبّون دعوة واحدة ويلبسون زيّاً واحداً، ويطوفون حول كعبة واحدة، ويسعون في مسار واحد ويوءدون مناسك واحدة، لا يختلفون ولا يتجادلون، ولا يتفاخرون، ولا يتضاربون، ولا يؤذي بعضهم بعضاً، وكأنّ الحرم يصهرهم في بوتقة واحدة، ويجعل منهم كياناً جديداً يختلف عما كانوا عليه.
الحرم الآمن:
وأبرز خصائص هذا التركيب الجديد للمجتمع البشري الذي يستحدثه الحرم في حياة الناس هو الأمن، والاحساس بالأمن. إن هذا الأمن من خصائص ونتائج هذا التركيب البشري الجديد الذي يجده الناس في الحرم، وهو في نفس الوقت من أسبابه وموجباته. فإن الناس إذا شعروا بالأمن بعضهم من بعض، التقي بعضهم بعضاً دون حذر، وتعامل بعضهم من بعض، وتلاقوا، وتآلفوا، وتعاونوا. فالأمن يعد الناس ليكونوا أمة واحدة، والأمن يعطي للناس هذه الفرصة، التي تتطلبها عملية الانتقال من الحياة الفردية، التي يعيشها الناس عامة إلي هذا النمط الجديد، الذي يريده الله تعالي لعباده، والذي يرسم الحرم نموذجاً له، كما يصح العكس أيضاً، فان الأمن والإحساس بالأمن هو النتيجة الطبيعية لهذا اللون الجديد من الحياة الاجتماعية. فإن الناس عندما يحشرون في الحرم لا يختلفون ولا يتشاجرون ولا يتفاخرون ولا يتزايدون ولا يتضاربون.
الحرم رقعة نموذجية لساحة الحياة:
والله تعالي يريد أن يكون وجه الأرض كله آمنا للناس، يعيش الناس بعضهم مع بعض في أمن ودعة وسلام لا يحنق بعضهم علي بعض، ولا ينوي أحد لأحد شرا، يُؤثِر بعضهم بعضاً علي نفسه، ويحب بعضهم بعضا.
يقول تعالي في صفة المهاجرين والأنصار في الصدر الأول من هذا الدين. . . والذين تبوّءُوا الدار والايمان من قبلهم يُحبون مَن هاجر إليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون علي أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شحَّ نفسه، فأولئك هم المفلحون. والذين جاءُوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاّ للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم (3) . ولكن الناس يرفضون أن يعيشوا كما يريد الله تعالي لهم.