11السرّ الآخر لارتداء هذا اللِّباس الخاصّ هو تذكّر اليوم الذي يأتي فيه الإنسان بلباس غير مخيط، ألا وهو يوم الموت الذي يرتدي فيه الكفن، من هنا تتجلّى في مناسك الحجّ ومراسيمه بعض أسرار القيامة، فسفر الموت والحضور في عرصات القيامة يتجسّد في نظر الحجيج.
كما أنّ ارتداء لباس الإحرام المتواضع والبسيط يزيل الامتيازات الظاهريّة الشكليّة بين الناس، ممّا يلغي أيّ أرضيّة لخلق رغبة في التفاضل أو التفاخر أو التباهي.
النيّة
الحجّ (التمتّع - القران - الإفراد) والعمرة من العناوين القصديّة والقُربيّة، لهذا يجب فيه مراعاة شيئين وقصدهما: أحدهما عنوان العمل، وثانيهما: غاية الفعل وهدفه، ألا وهو التقرّب إلى الله تعالى.
كما أنّ كلّ الأركان والأجزاء الداخلة تحت هذا العنوان تصبح قصديّةً أيضاً، فيغدو امتثالها - كامتثال الحجّ والعمرة - باطلاً غير متحقّق إذا فقد قصد العنوان الخاصّ.
نعم، القصد الإجمالي الأوّل كاف؛ حيث يلقي بظِلاله على سائر الاُمور والأجزاء.
ويجب في الحجّ والعمرة - كسائر العناوين القصديّة الاُخرى - المحافظة على قصد العنوان حتّى آخر جزء من العمل؛ لأنّ العناوين القصديّة لا يكفي فيها القصد بمجرّد الحدوث وفي مرحلته، بل لابدّ فيها أيضاً من القصد في مرحلة البقاء.
وبعض الاُمور، يُضاف إلى كونها من الأعمال القصديّة، أنّها من العبادات، فلا تتحقّق من دون قصد القُربة بنحو مستمرّ ودائم، فلا يمكن فيها عروض شائبة الرياء لا حدوثاً ولا بقاءاً، لأنّ ذلك يخلّ بخلوص قصد التقرّب. والحجّ والصلاة والعمرة والصيام من هذا النوع من الأعمال.
ويكفي في قصد القربة أن ينوي الفاعل من بداية فعله إلى نهايته أن ينجز هذا العمل بدافع الالتزام بالأوامر الإلهيّة، إنّ مثل هذا القصد عندما يستمرّ ويحفظ من عروض الرياء عليه يعدّ كافياً في تحقيق عباديّة الفعل.
والإطاعة المذكورة لها غاية حتماً، لأنّ امتثال الأمر الإلهي لا يقع - غالباً - من دون دافع أو هدف، وغاية الامتثال هنا تتحدّد بقدر معرفة الممتثل وهمّته ونشاطه واطّلاعه؛ فإنّ الدرجة الوجوديّة لأيّ ممتثل تشكّل العلّة المعيِّنة لمدى معرفته وقدر همّته واستعداده، كما أنّ مرتبة المعرفة ودرجة الهمّة تمثِّلان علامةً دالّة على الدرجة الوجوديّة.
إنّ الحجّاج والمعتمرين يقعون على فئات ثلاث وفقاً لحديث التثليث المعروف (45) ؛ فإنّ عبادتهم إمّا من نوع عبادة العبيد، أو عبادة الطالبين للمصلحة، أو عبادة الأحرار؛ لكن مع ذلك هناك مراتب لكلّ صفة من هذه الأوصاف الثلاثة: الخوف، والشوق، والحريّة، وأعلاها مرتبةً عبادة الأحرار، هناك يكون التعبّد الذي يحصل عليه الإنسان الكامل بطيّ مراحل قُرب الفرائض والنوافل (46) ، فيغدو هذا الإنسان محلاً للكون الجامع للحضرات الخمس، ومظهراً للإسم الأعظم في تدبير ما سوى الله بإذن الله.
بعض الناس يكون دافعهم العبادي راجعاً لما قد حصل ومضى، كالشكر لدفع نقمة أو رفعها، أو حدوث نعمة فيما مضى، وبعضهم صدق عبادتهم يعود للمستقبل؛ لدفع خطر أو جلب منفعة فيما سيأتي، وهذا يمتدّ إلى القيامة، حيث يسعى العابد للخلاص من نار الله العظيم الجبّار أو للوصول إلى جنّته العليا. أمّا الفريق الثالث فدافعه من الامتثال أرفع من دفع ضررٍ أو جلب منفعة بلحاظ الماضي أو المستقبل، بل أرفع من تمام حالات الماضي والمستقبل؛ إنّهم يعبدون الله لأنّ الله عندهم أهلٌ للعبادة يليق بها.