12إنّ دافع الإنسان السالك الصالح من عباداته الواجبة والمستحبّة - لا سيما الحجّ والعمرة - أن يصبح خليفة الله؛ فاُولئك الذين يريدون الوصول إلى مقام الخلافة الرفيع، عليهم التحرّر - في مناخ التربية العباديّة - من مضارّ المفاسد الحيوانيّة والشيطانيّة، حتّى يصلوا إلى قُلّة العلم وأوج العقل، فيكونون أهلاً لعنوان خلافة من لا عنوان له.
وبعد طيّ مقام «خليفة الله» تصل النوبة لسفرٍ أرفع وأسمى، وهو أن يفوّض العبد تمام شؤونه وأوضاعه لمالكه الأصلي ومليكه الحقيقي، حتّى يكون مولاه خليفته؛ أي يكون الله خليفة خليفته.
من هنا لا يسند أيّ فعل في هذا المقام الرفيع للعبد، بل يكون كما جاء في التعبير القرآني: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى (47) ، فالله هنا لايقول: إرم بإذن الله، وإنّما يقول: إنّ هذا الرمي الظاهري لك هو رمي حقيقي واقعي من جانب الله.
إنّ الوقوع في مقام خلافة الله معناه صيرورة العبد آيةً ومظهراً له سبحانه، كما أنّ جعل الله خليفةً للعبد معناه صيرورته قيّماً ووليّاً عليه، إنّ هذا المقام يأتي تحت ظلّ قرب النوافل، فمثل هذا العبد الذي يصبح تحت الولاية الإلهيّة، يتكلّم باللِّسان الإلهي، لا بلسانه، ويرى بعين الله، لا بعينه، ويسمع بسمع الله، لا بسمعه (48) .
حقيقة النيّة
حقيقة النيّة هي قُرب العبد من ساحة قدس المولى، وهي لا تحصل دون انبعاث الروح والسير الملكوتي؛ إذ مجرّد تصوّر أنّ امتثال الحجّ والعمرة هو لله سبحانه، وإن صدق عليه أنّه نيّة بالحمل الأوّلي، إلاّ أنّه غفلة بالحمل الشائع، فعندما لا يتخلّق الحاجّ والمعتمر في حياته وسلوكه وسيرته بالأخلاق الإلهيّة، ولا يرى أنّ هدفه النهائي من تمام شؤون حياته هو نيل رضا الله تعالى ولقائه، فإنّ نيّته على أرض الواقع تكون غفلةً؛ لأنّ قصد التقرّب لا يحصل دون تحقّق السير الملكوتي، ومجرّد تصوّر القصد المشار إليه لا يحقّق مصداق النيّة.
من هنا، ننتقل لموضوع آخر، وهو أنّ عباديّة أيّ فعل رهينة لقصد القُربة، وقصد القربة لا يتحقّق دون تحقّق القُرب، وحصول التقرّب قصدٌ بالحمل الأوّلي وغفلةٌ بالحمل الشائع. . إذاً فالتقرّب معتبر في حقيقة أيّ أمر عباديّ، تماماً كما جاء في الصلاة: «الصلاة قربان كلّ تقيّ» (49) ، وقريب من هذا التعبير جاء في الزكاة أيضاً، حيث ورد: «إنّ الزكاة جُعلت مع الصلاة قرباناً لأهل الإسلام» (50) .
من هنا، لزم في الحجّ والعمرة أن يُمزجا بالتقرّب من حيث كونهما عبادة؛ والتقرّب لا يحصل من دون السفر الباطني.
ومن خلال ما تقدّم يمكن ترتيب مراتب نيّة القربة في ظلّ الأسفار الأربعة، والمعيّن لمدارج هذا السير، ومعارج هذا السفر، ومعالي هذا الصعود، ومراقي هذا العروج. . هو معرفة السالك وهمّة الناسك.
التلبية
التلبية من الأجزاء الواجبة في عقد الإحرام، وهي ذِكرٌ خاصّ يستحبّ تكراره أيضاً بعد الإحرام حتّى الوصول إلى مكان معيّن أو متخطياً زماناً خاصّاً، إنّ تكرار التلبية عند كلّ مرتفع ومنخفض، وعند كلّ ارتفاع وانحدار يعني تجديد الإنسان في كلّ آن عهده مع إلهه تبارك وتعالى.
ولعلّ السرّ في كون الرسول (ص) هو أعظم مَظْهَر للأسماء الإلهيّة أنّه كان أفضل شخص حجّ، وفهم أسرار الحجّ، لا سيما التلبية، إنّ حجّ الرسول الأكرم كان يوازي معراجه، تماماً كما يقول الإمام الصادق (ع) في بيانه لعلّه إحرام رسول الله (ص) من