71
يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ .. .
وقد ذكرت لفظة (الناس) في السورة خمس عشرة مرة ، وهذه تعد أعلى نسبة في سور القرآن الكريم بعد سورة الناس التي ذكرت فيها لفظة الناس خمس مرات ، والمقصود بأعلى نسبة نسبة تكرار كلمة (الناس) إلى عدد كلمات السورة. . إذن هذا خطاب للناس بأن يتقوا الله تعالى لا إلى فئة معينة دون غيرها . .
فيما جاءت الآية 97 من سورة آل عمران وهي توجب فريضة الحج:
.. . وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّٰهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعٰالَمِينَ .
وقوله تعالى في سورة الحج الآية 27:
وَ أَذِّنْ فِي النّٰاسِ بِالْحَجِّ... .
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّٰاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبٰارَكاً وَ هُدىً لِلْعٰالَمِينَ ...
1
.
إن خطاب الإيجاب للحج في آية الحج المذكورة من سورة آل عمران وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ .. يدل على أن فريضة الحج هي العبادة الوحيدة التي عبر عنها بهذه الصيغة، وهذه الصيغة لا نجدها في إيجاب فريضتي الصلاة والصيام وأيضاً الزكاة، فقد توجه الخطاب فيهما إلى المؤمنين في سورتي النساء والبقرة:
إِنَّ الصَّلاٰةَ كٰانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتٰاباً مَوْقُوتاً
2
.
يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
3
.
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ .. .
وَ أَقٰامَ الصَّلاٰةَ وَ آتَى الزَّكٰاةَ ..
4
.
وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ ...
5
.
ولم يأت الخطاب : لله على الناس إقامة الصلاة أو إيتاء الزكاة أو لله على الناس أن يصوموا . .
كما أن تقديم اللفظ (لله) على المبتدأ المؤخر يدل على أن السياق يفيد معنى الحصر، أي إن هذه العبادة هي لله وحده، وهذه خصوصية انطوت عليها هذه العبادة من بين سائر العبادات، ولهذا نجد بعض الروايات تبين أن الحج فرار إلى الله وحده، فعن أبي جعفر(ع) في قوله تعالى :
فَفِرُّوا إِلَى اللّٰهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ .
قال : «حجوا إلى الله» 6 .
فالحاج أسلم نفسه وحياته بكل حالاتها ولحظاتها لله تعالى وحده لا شريك له، يأمره فيأتمر وينهاه فينتهي، وجوده كله يصرفه في سبيل الله وقربة إليه وبالتالي فهو يصوغ حياته كلها وفق هدى الله ومنهجه ويبعدها عن كل ما يصرفه عن ذلك، وحتى يصل الحاج إلى هذه النتيجة عليه أن يلتزم بما يقوله الإمام الصادق(ع) : «إذا أردت الحج فجرد قلبك لله عز وجل من قبل عزمك من كل شاغل وحجاب حاجب، وفوض أمورك إلى خالقك، وتوكل عليه في جميع ما يظهر من حركاتك وسكناتك وسلّم لقضائه وحكمه وقدره ودع الدنيا والراحة» 7.
أو كما في تفسير للآية الكريمة 26: وَ إِذْ بَوَّأْنٰا لِإِبْرٰاهِيمَ مَكٰانَ الْبَيْتِ أَنْ لاٰ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ وَ الْقٰائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ أي طهر قلبك لدخول السكينة فيه ولتحل فيه الأنوار الإلهية..
وقد قال القرطبي : والقائمون هم المصلون، ذكر تعالى من أركان الصلاة وأعظمها وهو القيام والركوع والسجود 8 .
فبمثل هذه الحالة والتجريد النفسي والتطهير القلبي والتوجه الخالص والتسليم الكامل والتفويض المطلق يدخل الحاج الذي يريد أن يستفيد من فريضة الحج ويبني بها كيانه بجدّ وصدق، يدخل أيام الحج وموسمه وبمثل ذلك يخرج ليستقبل حياته من جديد وبتاريخ جديد يستأنف نشاطه. . لهذا ورد عن رسول الله(ص) : «للحاج والمعتمر إحدى ثلاث خصال: إما أن يقال له : قد غفر لك ما مضى، وإما أن يقال له : قد غفر لك ما مضى فاستأنف العمل، وإما أن يقال له: قد حفظت في أهلك وولدك وهي أخسهنّ».
أو كما جاء في الحديث الذي يذكره الطبراني عن ابن عمر عن رسول الله(ص) : «.. . وأما وقوفك بعرفة .. . فلو كان عليك مثل رمل عالج أي متراكم أو مثل أيام الدنيا، أو مثل قطر السماء ذنوباً غسلها الله عنك . وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك . وأما حلقك رأسك، فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة . فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك»..