19والذين يقولون بأن قوله تعالى: آيٰاتٌ بَيِّنٰاتٌ إنما هو إشارةٌ لآياتٍ أخرى متعددة، وبالإضافة إلى مقام إبراهيم وجعل هذا البلد آمناً بسكانه و زائريه، فإنهم ذكروا أموراً أخرى أيضاً من الآيات العلنية لله سبحانه وتعالى في مكة و الحرم الإلهي، والتي لم يتم ذكرها بشكل منفصل بسبب وضوحها وعدم تصريح الله سبحانه وتعالى بها 1؛
أموراً من قبيل: 1- عدم تحليق الطيور فوق الكعبة و انحرافها أثناء الطيران عن فضاء الكعبة، 2- عدم تلويث الطيور للكعبة، 3-تعايش أنواع الحيوانات في الحرم و عدم تعرض الحيوانات المفترسة لغيرها، 4- تورط الظلمة الذين أرادوا سوءاً بالكعبة و قهرهم من قبل الله تعالى، مثل أصحاب الفيل، 5- عدم إصابة الحجيج بالتعب والإرهاق النفسي، على الرغم من مجيئهم من أماكن بعيدة و بصعوبة بالغة و بشكل متكرر أيضاً.
وبناءاً على ذلك، ولغرض بيان أهمية مقام إبراهيم خاصة، فإن الله سبحانه وتعالى يذكر مقام إبراهيم(ع) بشكل مستقل، من باب ذكر الخاص بعد العام، بعد ذكر الآيات الأخرى على وجه العموم.
كيفية تكوّن مقام إبراهيم
هناك عدة احتمالات بشأن كيفية تكوّن مقام إبراهيم(ع) ومنها:
1- وقوف النبي إبراهيم(ع) على هذا الحجر أثناء القيام ببناء الكعبة . وعن طريق الإعجاز الإلهي أصبح الحجر آنذاك ليناً و قابلاً لبروز الآثار عليه؛ فبقي أثر الأقدام عليه 2.
2- عندما عاد للمرة الثانية إلى مكة قالت زوجة إسماعيل(ع) : ترجّل كي أغسل رأسك، وعندما ترجّلَ(ع) ، وضع قدمه على الحجر وأحدث أثراً في ذلك الحجر 3.
وعلى أية حال، فإن حقيقة وضع إبراهيم(ع) قدمه على الحجر الصلد وانغماس أثر قدمه المباركة و بقاء هذا الأثر في ذلك الحجر. . يعدّ من الأمور المسلّم بها والتي اعتبروها معجزة له(ع) 4.
وقد ورد ذكر مشابهٍ لهذه الخاصيّة، بشأن النبي داود(ع) ، إذ إن الله سبحانه وتعالى جعل الحديد البارد الصلد بيده ليّناً كالشمع؛ وَ أَلَنّٰا لَهُ الْحَدِيدَ 5 . والملاحظة التي يجدر الإشارة لها هنا، أنه ورد حديث عن التعليم في مسألة صناعة الحديد؛ قال تعالى: وَ عَلَّمْنٰاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ 6؛ لأن صناعة الدروع يمكن تعليمها و نقلها للآخرين كما هو الحال في سائر العلوم والمهن الأخرى، على العكس من عملية إلانة الحديد البارد و القوي بواسطة اليد . ومن هنا لم يقل تعالى: «وَعلّمناه إلانة الحديد» . ويصدق هذا الأمر بشأن مقام إبراهيم(ع) أيضاً، مع وجود هذا الفرق حيث إن الحديث هنا يتعلق ب- «وألنّا له الحجر».
وبقيت «آثار» كلتا قدمي إبراهيم(ع) المباركتين محفوظتين في مقام إبراهيم(ع) 7 كما كان الحديد يحافظ على «بدن» داود(ع) .
ملاحظة
قال الإمام السجاد(ع) :
«أفضل البقاع ما بين الركن و المقام...» 8أي إن المسافة ما بين الركن (الحجر الأسود) إلى مقام إبراهيم، هي من أفضل الأماكن، و روي عن الإمام الباقر(ع) أنه قال:
«أنَّ ما بين الركن و المقام لمشحونٌ من قبور الأنبياء» 9 . و هذا المكان، هو منطلق حركة الإمام الحجة(عج) العالمية . ويقول الإمام الباقر(ع) بهذا الشأن:
«كَأنّي بالقائم يومَ عاشورا يوم السبت، قائماً بين الركن و المقام، بين يديه جبرئيلَ(ع) ينادي: البيعة لله . فيملأها عدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً» 10.
تنبيه
ومقام إبراهيم(ع) يطلق أيضاً على قطعة الأرض التي يقع فيها مقام إبراهيم(ع) في المسجد الحرام، وهي محل صلاة الطواف 11 . مثلما يطلق أحياناً على الكعبة أيضاً 12.
زمزم
تدفّق ماء زمزم ببركة ذريّة إبراهيم الخليل(ع) ؛ لأنه(ع) ترك وليده وأمه هاجر بوادٍ غير ذي زرع وضرع في أرض مكة بأمر الله سبحانه و تعالى . و على أثر عطش الوليد، أخذت أمه تبحث عن الماء و تدعو و تنادي: «هل بالوادي من أنيس؟»، فأخذت تسعى بين الصفا و المروة سبع مرات ذهاباً وإياباً . وفجأةً رأت تحت أقدام الوليد عيناً ينبع فيها الماء 13.
ولا زال ذلك الماء يتدفق لحد الآن بعد مضي آلاف السنين عليه، على الرغم من أنه تمّ حفر آبار إضافية أخرى في ذلك الوادي، هذا أولاً،
وثانياً: إن مكة ليس بلداً تسقط عليها الثلوج، كما أن أمطارها ليست غزيرة، لكي يصبح تدافع الماء من زمزم على أساس قوله تعالى: فَسَلَكَهُ يَنٰابِيعَ فِي الْأَرْضِ 14 . وبناءاً على ذلك، فإن تدفّق ماء زمزم واستمراره آلاف السنين على ذلك في بلدٍ مثل مكة، وما فيه من صفة الشفا وصيانته من الفساد 15، كل واحدة من هذه الأمور هي معجزة بحد ذاتها، لذا يمكن القول بأن زمزم هو مصداق ل- آيٰاتٌ بَيِّنٰاتٌ لوحده؛