63
الحالة الرابعة: أن لا يؤثر الفعل الأوّل في موضوع الفعل الثاني، لا إيجاد ولا إعداماً ولا دفعاً ولا رفعاً، فيكون حيادياً تجاهه، على مستوى موضوع الحكم، ومن الواضح في هذه الحالة أنّه لا يؤثر عليه، نعم، قد يعلم المكلّف أنّه لو فعل الفعل الأول فسوف ينبعث عنده داعي الفعل الثاني، بحيث لو لم يُقدم على الفعل الأوّل يحتمل أن لا يقدم على الثاني، والعكس هو الصحيح فلو أقدم على الفعل الأوّل فلن يقدم على الفعل الثاني، وهنا على تقدير إلزامية الفعل الثاني في وقته، قد يغدو واجباً عليه تحقيق الفعل الأوّل حتى لو كان مباحاً أو مستحباً، أو يحرم عليه حتى لو كان كذلك، وذلك من باب مقدّمة الواجب وما لا يكون الواجب إلا به فهو واجب، أو من باب مقدّمة الحرام، إذ هو يعلم أنّه لو لم يقم بالفعل الأوّل فلن يقوم بالفعل الثاني، أو العكس بحيث لو قام بالأوّل قام بالثاني، والمفروض وجوبه عليه أو حرمته، فيجب عليه الفعل الأوّل، لتقوّم الفعل الثاني به، حتى لو كان هذا التقوّم على مستوى انعقاد النيّة وحصول الشوق إلى تحقيق الفعل الثاني.
وهذه الحالة لها أمثلة كثيرة، فقد يعلم المكلّف أنّه إذا صادق زيداً من الناس فسوف تضمحلّ في نفسه بواعث الإيمان، ويقصر عن فعل الواجبات، أو إذا عمل في الوظيفة الفلانية فسوف تعوقه - ولو في المستقبل - عن تحصيل سائر الواجبات، أو أحرز أنّه بذهابه إلى المسجد ورفقته للمؤمنين فيه، سوف تشتعل في نفسه جذوة الإيمان، ويقوم بفعل الواجبات الأخرى بحيث إنّه لن يفعلها لو لم يحصّل مثل هذه المقدّمة، فلا يبعد في هذه الحالات - ولو كان التأثير مستقبليّاً - أن يجب عليه أو يحرم هذا الفعل الآني الذي سيترك أثراً على أفعاله المستقبلية.
ويكفي هنا الصدق العرفي في مفهوم المقدّمية بحيث يرى العقلاء أنّه مسؤول عمّا فعله، لا ما إذا رأى العرف والعقلاء وجود الفاصلة بين الفعل الأوّل والثاني، بحيث لم ينسبوا التقصير في الثاني إلى الأوّل، بل إلى نية الفاعل أو عزيمته، كما لو أحرز - بالإحراز الإجمالي - أنّه سوف يقع في الحرام لو تزوّج، بحيث قد يؤذي زوجته، ففي هذه الحالة لا يرى العرف - إلا في حالات نادرة - أنّه بزواجه قد حقّق مقدّمة عصيانه أو إحدى معاصيه، بل ينسبون ذلك إلى تقصيره بعد زواجه، وإلا لو أخذ بمثل هذه الإحرازات الإجماليّة للزم تحريم أمور كثيرة يُعلم من الشريعة عدم تحريمها.
ويمكن القول: إنّ العرف والعقلاء يوازنون هنا بين المصالح والمفاسد وبين صور المعاصي، فيرون أنّه لو لم يقدم على الزواج أو الوظيفة - مثلاً - فسوف يقع في معاصي أو مفاسد أخرى، لهذا يرون أنّه يجوز - أو قد يجب عليه - الزواج أو العمل الفلاني مع إلزامه برعاية نفسه فيما بعد الدخول في هذا العمل، أو يقولون: إنّ هذه الإحرازات المستقبلية لا يعتدّ بها في مثل هذه الموارد لعدم ضبطها؛ إذ يلزم منها تعطيل الحياة، والإخلال بالنظام، مادام يحرز كلّ فردٍ ذلك، لهذا لم يتصوّر أحد من الفقهاء التحريم هنا، إلا في حالات خاصّة لها ظروفها الاستثنائية في العرف وعند العقلاء.
2- الترابط بين أفعال المكلّفين مع بعضهم البعض
أمّا الصورة الثانية التي يترك فيها فعل أحد الشخصين تأثيره على الشخص الثاني، كما في مثال الحجّ الذي فرضناه مطلع البحث، فيقع الحديث عنها في حالات عديدة، ففعل كلّ من الطرفين قد يكون إلزاميّاً، وقد يكون غير إلزامي، كما أنّ تأثير فعل الطرف الأوّل قد يكون إيجابيّاً، بمعنى أن يساعد على امتثال الطرف الثاني للتكليف، وقد يكون سلبيّاً، بمعنى أن يساهم في تخلّفه عنه، كما أنّ تخلّف الثاني قد يكون عن اضطرار وقد يكون عن عناد تتوسّطه النيّة والإرادة أو لا تتوسّطه، كما قد يلغي فعل الطرف الأوّل موضوع الثاني وقد يحقّقه وقد يحول دون انعقاده، كذلك قد يكون فعل الطرف الأوّل في نفسه جائزاً وقد يكون حراماً.. إلى ما شاء الله تعالى من الصور والفروض التي تخرج عن طاقة هذه المقالة، لكنّنا سنحاول رصد معالم الموضوع منهجيّاً في رؤية أُصوليّة مستوعبة إلى حدٍّ ما، فهنا عدّة حالات:
الحالة الأُولى: أن يكون ما قام به الطرف الأوّل معصيةً لله تعالى، إمّا بتخلّف عن واجب أو بفعلٍ لمحرّم، ويترك هذا الفعل تأثيره على فعل الآخرين، فهنا:
أ - أمّا فعله لنفسه، فقد كان معصيةً حسب الفرض فيكون غير جائز، لعدم موجب للخروج عن مقتضياته، إلاّ في حالة واحدة، وهي أن يتحوّل هذا الفعل إلى مقدّمة واجب على الفرد نفسه بلحاظ فعل الآخرين، ويكون ذلك الواجب أهمّ من هذا الواجب أو الحرام، كما لو فرضنا أنّ تخلّف زيد عن الحجّ سوف يؤدّي إلى إقلاع عَمرو عن قتل أحد المؤمنين، ففي مثل هذه الحالة يمكن تصوّر تغيّر حالة الفعل بالنسبة للطرف الأوّل، ليصير جائزاً أو واجباً تبعاً لقانون التزاحم وتطبيقاته، نعم قد يُضاف إلى حيثيّة العصيان في هذا الفعل إفضاؤه إلى عصيان الآخرين، كما لو كان تخلّفه عن أحد أعمال الحجّ باعثاً لتخلّف الآخرين عن عمد، فإنّه وإن لم يكن الجزء الأخير للعلّة التامّة لعصيان الآخرين إلاّ أنّه يصدق عليه عرفاً المساعدة على الحرام والإعانة عليه مع التفاته، وقد لا يكون عدم امتثال الطرف الثاني عن عمد حتّى يكون إعانةً على الحرام، بل عن اضطرار؛ فهنا يصدق أنّ فعل الطرف الأوّل للمعصية كان صدّاً عن سبيل الله سبحانه، كما لو استؤجر لإيصال الحجيج من بلده إلى مكّة لكنّه تخلّف عن هذا الواجب الشرعي الملزم به بمقتضى عقد الإجارة، وفُرض أنّه لا سبيل لهؤلاء الحجيج للذهاب إلى مكّة غيره، فيكون عصيانه لوجوب الوفاء بعقد الإجارة ممّا يصدق عليه الصدّ عن سبيل الله، لأنّ المفروض أنّ الحجيج قد تعلّقت الأحكام بهم، فالحيلولة دون وصولهم صدّ عن سبيل الله، اللهم إلاّ إذا قيل: إنّ الصدّ أخذ فيه حيثيّة المانع لا انعدام المقتضي والوسيلة.
ب - وأمّا بالنسبة للطرف الثاني، فالمفترض أنّه غير معني بعصيان الآخرين، لكن:
1 - قد يكون هذا العصيان موجباً لتحقّق موضوع واجب آخر على الطرف الثاني، كما في حالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنّ عصيان الطرف الأوّل قد يحقّق تمامية موضوع هذا الوجوب، فيصبح الثاني ملزماً شرعاً بأداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حقّ الأوّل، وهذا معناه أنّ تحقيق معصية الآخرين لموضوع تكليف شرعي على الطرف الثاني وارد.
2 - وقد يكون عصيان الطرف الأوّل دافعاً للتكليف عن الطرف الثاني، كما لو كان الطرفان معاً قد شرطا في تسليم الثمن أن يحجّ الطرف الأوّل هذا العام، فإنّ عدم حجّه سوف يحول دون تحقّق موضوع وجوب التسليم على الطرف الثاني.