31لقد خلق الله سبحانه الكعبة للوحدة العالميّة حتّى يتمكّن الجميع من عيش حياة سلميّة هانئة مع الاهتمام بالاُصول القيّمة للتوحيد، ومركز إجراء هذه الفكرة ليس سوى الكعبة التي جعلها الله سبحانه تجمّعاً لأطراف العالم الإسلامي عبر اعتبارها قبلةً ومطافاً للعالمين، حتّى يتّحد مسلمو العالم بامتلاكهم المحور الذي يعطي الوحدة ويتعرّفون بذلك على بعضهم.
وبناءً عليه، فالكعبة مركز عام ومحور رئيس لتبادل وجهات النظر من الأطراف كافّة حتّى يلتقي المسلمون من القريب والبعيد إلى جانب بعضهم، يطرحوا هناك القضايا العلميّة والعمليّة والمشكلات السياسيّة والاجتماعية كي يقوموا بحلّها ويُحكموا بذلك العلاقة فيما بينهم.
لقد بُنيت الكعبة على يد قويّة لنبيٍّ عظيم حتّى تكون مركزاً لنشر التوحيد، وعندما احتاجت في عصر خاتم الأنبياء(ص)إلى التجديد، وبعد انهيار قسم من جدار الكعبة وحصول خلاف بين القبائل العربية في نصب الحجر الأسود في من هي القبيلة التي ستنال شرف نصب هذا الحجر... اتّفق الجميع على اختيار محمّد الأمين(ص) بوصفه العاقل المحايد والناظر غير المتحيّز ولا المغرض.. حتّى يقبلوا بأيّ قرار يتّخذه.. هناك طلب منهم الرسول(ص) أن يفترشوا رداءً ليضعوا الحجر الأسود فيه، فتأخذ كلّ قبيلة طرفاً من الرداء، وبهذا عاد الحجر الأسود إلى مكانه الخاصّ، وجعله الرسول(ص) بيده المباركة في محلّه الموجود اليوم 1.
لقد ارتفعت أرضية الخلافات الجاهلية القوميّة والعرقيّة إلى حدّ ما على هدي إرشادات خاتم الأنبياء(ص)، وقد دعا الرسول الأكرم(ص) بهذا الابتكار التاريخي.. دعا الشعب إلى الاتّحاد، مقدِّماً الكعبة منادياً للاتّحاد ومركزاً للوحدة.
إنّ هذا الوصف الممتاز يتلألأ إلى جانب سائر الأوصاف البارزة للكعبة، وهو أنّها تكوّن مدرسة التوحيد والاتّحاد والوحدة، ذلك أنّ البيت الذي تقدّسه امّة من الناس ويشارك الجميع في بنائه وعمارته، وأهمّ جزء منه قد نصب في موضعه الخاصّ مع حفظ تمام الحقوق، وكان للإنسان الكامل الأطهر دورٌ في نصب هذا الجزء المقدّس، وذلك الإنسان الذي تعدّ الوحدة الشعبيّة من أهمّ رسائله الهامّة.. إنّ هذا البيت له دور فاعل في أن يكون مركزاً للوحدة.
تذكّر:
لقد خصّصنا البحث الأوّل من هذا الفصل للحديث عن المكانة المحورية للكعبة في توحيد الاُمّة الإسلاميّة.
10 - أقدم المعابد العامّة
كلّ الأرض مسجد، قال رسول الله(ص):
«جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» 2، وقد عبد الإنسان منذ القدم السحيق الله سبحانه في زوايا الأرض وأطرافها، إلاّ أنّ أوّل مكان مخصّص للعبادة الجماعيّة كان الكعبة، قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّٰاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبٰارَكاً وَ هُدىً لِلْعٰالَمِينَ 3.
إنّ الكعبة - ومع هذا الماضي المقدّس والتاريخ المبارك - متقدّمة في الشرف على بيت المقدس، فصارت قبلةً للعالمين، وقد استند إلى هذا التاريخ السحيق عندما نزل الوحي الإلهي حول تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المعظّمة واعترض اليهود على الإسلام بقداسة البيت المقدّس وقدمه، حيث ذكر أنّ الكعبة المطهّرة كانت أوّل بيت وأقدم بيت وضع للناس.
لعلّه من هذا المنطلق أطلق على الكعبة عنوان «البيت العتيق»، ذلك أنّ العتيق يُطلق على القديم والنفيس، والشيء الذي لا قِدَم له أو هو قديم لكنّه ليس بنفيس لا يسمّى عتيقاً.
نعم، كما كان مدار الكرامة في النظام الإنساني الإلهي هو التقوى لا غير، كذلك محور قداسة الظواهر المادّية والنظام الخارج عن الإنسان كالأزمنة والأمكنة وأمثالها هو تجلّي الأمر الإلهي، كنزول الوحي فيه أو بسط الوحي عنده، وهذا الأمر الإلهي هو الموجب الوحيد لقداسة الكعبة، والتي غدت بيتاً عتيقاً نظراً إلى انضمام قدمها التاريخي إلى ذلك.
وتوضيح هذا الأمر أنّ حرمة الحرم ومكّة إنّما هي بالكعبة، وحرمة الكعبة بالوحي الإلهي والإنسان الكامل والمعصوم الذي يغدو الخليفة التامّة لله سبحانه على أثر الاتّصال به وتلقّيه الوحي، أعمّ من الوحي التشريعي والوحي التسديدي الغيبي، كما أنّ الكلام والكتاب الإلهي - أي القرآن الكريم الحكيم - يأخذ حرمته من حرمة المتكلِّم والكاتب، أي الله سبحانه، تماماً كما هي حرمة الخليفة - أي الإنسان الكامل - تكون بالمستخلف عنه، أي الله الحكيم، إنّ حرمة الله تعالى بالذات، وعلى أساس الأصل القاضي بأنّ كلّ ما بالعرض لابدّ أن يرجع إلى ما بالذات، تكون الحرمة الإلهيّة هي المرجع الحصري لكافة الحرمات المذكورة.
وبناءً عليه، فكافة الاُمور المذكورة من نزول الوحي إلى هبوط الكتاب السماوي ووجود الإنسان الكامل الذي يكون قلبه المطهّر مهبطاً للوحي 4، لها دور فاعل في قداسة الكعبة، تماماً كما أنّ لبنّاء البيت العتيق وكيفيّة تطهيره من لوث الوثنيّة والمعصية دوراً أيضاً في قداسة الكعبة.
وللبيت العتيق معنى آخر سبق التعرّض له وبيانه.
11 - أفضل المعابد