30الفضيلة الوحيدة للإنسان، كما أنّ إرسال الأضحية إلى البيت العتيق وذبحها في داخل الحرم هَدْياً بٰالِغَ الْكَعْبَةِ 1 و ثُمَّ مَحِلُّهٰا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ 2 يعطي درساً في التحرّر من التعلّقات.
إنّ الذين يرزقون زيارة هذا البناء ليسوا عبيداً لأنفسهم وحرصهم ولا مماليك للمستعمرين والمستثمرين الخارجيّين، تماماً كما كان بنّاء الكعبة سيّدنا إبراهيم(ع) مبرّأً من الميول والتعلّقات ومحميّاً من الحرص والخوف و... ذلك أنّ العبودية لا تنسجم مع مدار الحريّة والتحرّر.
وبناءً عليه، لا يمكن لغير المتحرّرين من قبضة سلطة المتسلّطين أن يطوفوا طوافاً حقيقيّاً حول هذا البيت، أو أن يجعلوه قبلتهم على نحو الحقيقة، وليس سوى الأحرار الحقيقيّين من قبضات الهوى العاصين عليه والمتّجهين نحو القلب والروح من يتمكّن من الدوران حولها.
إنّ هذا الإقبال على الكعبة يجعل سلوك الإنسان ملائكيّاً، ويحرّره من الشهوة والغضب والرذائل الأخلاقيّة.
إذا جاهدت وسعيت غدوت مَلَكاً
فالحرير لا يأتي إلا من ورق التوت 3
إنّ الذي يطوف حرّاً حول البيت لا يغدو عبداً ولا ذليلاً، كما أنّه لا يرى نفسه سوى عبداً لله تعالى، تماماً كما يقول أمير المؤمنين(ع):
«لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً» 4.
7- مظهر المساواة
من أبرز مظاهر شموليّة الإسلام وعالميّته واستيعاب دعوته وندائه العالمي حول الكعبة هو الحجّ، حيث كان إعلانه عند بناء الكعبة موجّهاً للجميع، قال تعالى: وَ أَذِّنْ فِي النّٰاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجٰالاً وَ عَلىٰ كُلِّ ضٰامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ 5.
إنّ الكعبة بنيان إلهي لكلّ الناس على امتداد التاريخ، لا تختصّ بأحد أو قوم أو عصر أو إقليم، من هنا يجب على أهل المدن والقرى والأرياف، وعلى المتمدّنين وأهل البادية، وعلى القريب والبعيد، والغابر والقادم، وبشكل واحد أن يستفيدوا من نعمة الحجّ، قال تعالى: جَعَلْنٰاهُ لِلنّٰاسِ سَوٰاءً الْعٰاكِفُ فِيهِ وَ الْبٰادِ... 6؛ وعليه، تغدو الكعبة والمسجد الحرام مظهراً بارزاً للمساواة بين الناس.
لقد دعا الله تعالى الجميع إلى أرض المساواة كي يتعلّموا ويتمرّنوا على التساوي والمساواة، ودعاهم إلى الطواف في أطراف الكعبة جميعاً حيث قال: سَوٰاءً الْعٰاكِفُ فِيهِ وَ الْبٰادِ ؛ وعليه فإذا حصل الطواف حول الكعبة، ودائرة المساواة، فلابدّ من إلقاء كلّ معاني الامتياز الفردي والعرقي والقومي واعتبار كلّ القوميات والأعراق قوميّته وعرقه، وكما يأخذ درس الطهارة من الطواف حول البيت الطاهر: طَهِّرٰا بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ وَ الْعٰاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ 7، كذلك لابدّ أن يكون حاصله من الحضور في موضع تجلّي المساواة هو درس المساواة أيضاً، حتّى لا يرجّح فرداً على آخر، وعرقاً على آخر، اللّهمَّ إلاّ على أساس التقوى تتملك الفضيلة المعنوية غير المادّية.
8- الكعبة مرجع الخلق جميعاً
الكعبة مرجع عامّة الناس ومثابتهم، ومأمن جماهير الخلق، قال تعالى: وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثٰابَةً لِلنّٰاسِ وَ أَمْناً 8، وكما هو ظهور كلمة «الناس»، كذلك لم يجعل الله تعالى الكعبة مبنيّةً للمسلمين فقط.
تعني كلمة «ثاب» رجع 9، و«مثاب» و «مثابة» بمعنى المرجع، وتاء المثابة تاء المبالغة، بمعنى أنّ البيت هو مرجع مكرّر للناس، ويطلق المرجع على المكان الذي يأتي منه الإنسان ويعود إليه مجدّداً، وعلى هذا الأساس فالكعبة هي الوطن الأصلي للناس، فعندما يزور الإنسان الكعبة يبدو وكأنّه عاد إلى أهله، وبناءً عليه فالكعبة مظهر الفطرة، والحالة الأصليّة للناس تتمثّل في رجوعهم إلى الكعبة، وكلّ من ينصرف عن الكعبة يكون قد انحرف عن حالته الأصليّة.
وحيث كان كلّ مسلم على ارتباط مستمرّ بالكعبة - تماماً كما تقتضيه أفضل حالة الأدب الإسلامي في الجلوس، وهي حالة التوجّه إلى الكعبة «خير المجالس ما استُقبل به القبلة» 10، وهكذا كان رسول الله(ص) في جلوسه 11 - كان بالإمكان استظهار معنى آخر للمثاب وهو أنّ الكعبة مرجع الناس في تمام اللحظات، في الليل والنهار.
9- مركز الاتّحاد
توفّر وحدة المرجع الأرضيةَ لاتّحاد الراجعين؛ ذلك أنّ إحساس وحدة المقصد والمأوى وسيلة مناسبة لتضارب آراء الراجعين، وعلاقاتهم الفكرية، وهذا بنفسه مقدّمة مناسبة لإدراك ضرورة العودة المتّحدة، كي تتهيّأ عناصر عالميّة الإسلام وأصول المجتمع المهدوي، ورغم أنّه من وجهة نظر الملكوت أيّ جهة يتّجه إليها أحد فهو يتّجه إلى الله تعالى، فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّٰهِ 12، إلاّ أنّه على مستوى الملك ونطاق الطبيعة لا مفرّ من التوجّه إلى نقطة مركزية ومتكئ محوري.